سئل جحا ذات يوم عن أى البلاد يعتبرها بلده، فقال: بلدى اللى فيها مراتى.
هذه اللمحة القصيرة من إجابات جحا الخاطفة والبسيطة وذات المضمون العميق، على قدر ما تبدو ساذجة أحيانا أو سطحية، تلخص كل ما يعرفه العالم عن المفهوم الحديث للأمن القومى!

فجحا لا يقصد أقل من أن موطئ خطوته ومجال انتمائه الجغرافى، هو حيث توجد مصلحته السياسية والاقتصادية. وهو بالضبط مفهوم الأمن القومى الذى اكتشفته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية بفترة ليست بالقصيرة، ولم تبدأ بتطبيقه بشكل كامل إلا بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر.
وكانت النظريات الكلاسيكية فى الأمن القومى تفتى بأن حدود الأمن القومى تضم الحدود السياسية الدولية للبلاد مضافا إليها بعض المناطق فى الجوار التى تصلح لأن تكون مداخل وبوابات ومنطات يمكن أن يستغلها لصوص السيادة من الغزاة والمحتلين.
لم يكن الأمن القومى يزيد كثيرا فى هذا الفكر عن الأمن الجغرافى المباشر، وبناء على ذلك كانت أى أعمال عسكرية تقوم بها دول مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا فى أعالى البحار وعلى بعد آلاف الأميال من حدودها السياسية تبرر بالدفاع عن الأمن القومى الذى كان يتلخص فى العاصمة وعرش الملك أو الملكة، وإنما كانت هذه الأعمال التى تضمنت غزوا لأقاليم بعيدة تفسر بأنها استعمار أو نشر للحضارة الأوروبية المسيحية فى الأرض.
وعندما جاءت ضربة بيرل هاربر التى وجهتها اليابان للولايات المتحدة ذات صباح من عام 1941 وجرتها بها إلى الحرب العالمية الثانية فى وقت لم تكن واشنطن تعتقد فيه أنها فى حاجة إلى العداء ولا إلى الصداقة مع بقية العالم، تغير الفكر العالمى ليطابق تقريبا نظرية جحا سالفة الذكر.. أمنى القومى ممتد إلى حيث تمتد مصلحتى السياسية والاقتصادية.
وعندما حلقت الطائرات المصرية لدك معسكرات جرذان داعش فى العمق الليبى سرت موجة من الانبهار والدهشة فى قلوب المصريين الذين يشاهدون لأول مرة منذ سنوات طويلة إصبعا يمتد ليحمى أمن بلادهم القومى خارج مربع الحدود السياسية ولو بشبر واحد.
وتصور البعض أن الرغبة فى الثأر لشهدائنا الذين ذبحتهم داعش فى مشهد مؤلم هى المحرك الوحيد لحالة الفخر التى أصابت المصريين عندما أيقنوا ذاك الصباح أن لديهم جيشا وأن لهذا الجيش طائرات تضرب الصواريخ ولا ترسم بالألوان فى سماء القاهرة فى احتفالات أكتوبر فقط، لكن الحقيقة أن مصدر الفخر بهذا الجيش هو أنه أثبت أن لديه إرادة حقيقية فى الدفاع عن أى بقعة تمتد إليها مصلحة مصر، كما أثبت أنه يملك القدرة على إرسال القنابل والرجال إلى حيث يختبئ أعداء هذه المصلحة.
يشعر المصريون فى هذه الأيام بالناتج الطبيعى لممارسة مقاليد الأمن القومى.. يشعر المصريون هذه الأيام بالقومية المصرية، تلك القومية التى يمكن أن نعتبر هذه الأيام فجرا لعودتها بعد أن التبست لأكثر من نصف قرن بمخلوط القومية العربية الإسلامية الذى غيب القومية المصرية التاريخية على الرغم من أنه وضع مصر لفترات طويلة فى قلب القومية العربية الإسلامية.
ويمكن تلخيص هذه النفرة القومية فى عبارة مبسطة: عندما تتصرف مصر على أنها مصر، يشعر المصريون أنهم مصريون.. عندما تكون مصر هى مصر التى يعرفها المصريون، يصبح المصريون المصريين الذين تعرفهم مصر.
وإن لم تكن هذه القاعدة صحيحة، فلماذا يخرج الناس فى الشوارع احتفالا بالفوز فى مباراة كرة قدم؟ ولماذا تجدهم على قلب رجل واحد إذا نطق مسئول بعبارة تضع مصر فى مكانتها فوق رؤوس الجميع؟ ولماذا يتحول كل فرد منهم إلى جندى متأهب كلما حركت مصر قواتها؟ ولماذا يتحول المصريون إلى ملائكة فى الأيام التالية على الثورة؟.. لأنهم رأوا وطنا يحبون الانتماء إليه.
وهذه هى الطريقة الأبسط لمعرفة حدود الأمن القومى وتعريفه، وإن لم تكن أبسط من نظرية جحا، الأمن القومى هو «أى شىء يحفظ على المواطنين حقهم فى الوطن»

Link