كان ناشطو «تويتر» الذين انجرفوا وراء الدعوة إلى التخلى عن الجنسية المصرية قبل أيام معذورين فى هذا الانجراف، لأن أحدا لم يعلمهم معنى فكرة الوطن، فتصوروا أن الوطن مجرد مكان تتوفر فيه موارد وخدمات تصل بهم إلى الحياة التى يحلمون بها.

وبداية لن نستكثر الحياة الكريمة على أحد كمطلب أساسى ومشروع، فالمتوقع الأدنى من الوطن أن يحفظ على الإنسان إنسانيته فى مقابل أن يقدم هذا الإنسان نعمة المواطنة على أى نعمة سواها.
لكن الفائدة التطبيقة للوطن – وللمواطنة على حد سواء –  ليست تعريفا لفكرة الوطن، فالوطن ليس مجرد مساحة جغرافية يعيش فيها الإنسان سكنا، ويستهلك من عطائها طعاما، ويتناسل على أرضها تكاثرا.
ولو كان وقفا على السكن والموارد والتناسل لصار أى مكان فى العالم به سكن أفضل وطعام أشهى ونسل أجود خيراً من الوطن، رغم أنها كلها مطالب مشروعة وأساسية، لكنها ليست كل الوطن.
فالوطن وشيجة ورابطة شعورية بين الإنسان وبقعة من الأرض، حتى لو كانت هذه البقعة هى الجحيم بعينه، لأنها ببساطة رابطة غير مبررة بصفات هذه المساحة الجغرافية، ومن ثم يكون حب الوطن والانتماء إليه مطلقين غير مرتبطين بجودة الحياة ولا كفايتها مهما كانت أهمية هذه الجودة وضرورة هذه الكفاية.
ولا أريد هنا أن أزعم أن رابطة المواطنة علاقة حب من طرف المواطن للوطن دون أن يقابلها شىء، فالحقيقة هو أنها علاقة متبادلة، وأكثر من ذلك أنها علاقة يجب أن تكون متوازنة، يقدم فيها المواطن الحب والانتماء الخالصين لوجه الوطن، بينما يلتزم الوطن ذ  جغرافيا وسكانا ذ  بأن يكفى هذا المواطن شرور الفاقة والظلم، ويضمن له ما اصطلح عليها أن تكون الحقوق الأساسية للإنسان.
ما أريد أن أبرزه فى هذا الصدد هو أن فكرة الوطن وعقيدة المواطنة أكبر كثيراً من علاقة الإنسان بالفندق الذى يمكن أن يختاره بناء على جودة الحياة فيه، والذى يمكن أن يغيره إذا شعر أنه يعطيه أقل مما يطمح.
وعندما يختل التوازن المشترط فى هذه العلاقة ليتحول إلى توازن مشروط، يصبح المواطن أمام خيار من اثنين: إما أن يمد يده بسكين ليقطع الحبل الشعورى بينه وبين وطنه باختياره وإرادته، وفى هذه الحالة لن يكون مواطنا مفقودا ولا مفتقدا، ولن ينقص مواطنى هذا الوطن أكثر من ساكن فندق لم تعجبه الإقامة، وإما أن يناضل بما يمكنه من العمل والبذل كى يستعيد لوطنه قدرته على منحه وأبنائه الحياة الإنسانية الكريمة، ليصير فى هذه الحالة مواطنا له حق مضاعف فى وطنه.
وأقصد بهذا الحق المضاعف حق الرابطة الشعورية الأصلية بينه وبين الأرض، وحق الذى استحقه بالعمل والكفاح كى يجعل الأرض التى ولد عليها هو وأسلافه مكانا أفضل له ولنسله من بعده.
وإذا خرجنا من هذا الطور الفلسفى أو النظرى لفكرة الوطن وعدنا إلى دعوة التخلى عن الجنسية المصرية التى تبناها البعض وبنى عليها جبالاً من السخرية المريرة، وقدراً لا بأس به من الواقعية الخطيرة، فسنصل إلى مرحلة للمحاسبة بين مصر والمصريين يجب أن نكون موضوعيين وعادلين فى تقديرها.
وصحيح أن الحياة فى مصر ليست جنة، وليس من المتوقع أن تصبح جنة «الله» فى أرضه فى أى مستقبل منظور، لكن على ميزان العدالة بين الوطن والمواطن لن تكون الميلة فى صالح المواطن المصرى أبدا، بل على العكس من ذلك، سيكون الحساب ثقيلا، وستكون مصر فيه دائنة لا مدينة.
فالمواطن الذى يرى أن مصر لا تصلح له وطنا يجب أن يتذكر دائما أنه لا يصلح مواطنا فى أى دولة أصلا، لا مصر ولا غيرها، وحتى لو كان الأمر مجرد سخرية من الحالة الاقتصادية للبلاد، فلا بد من لحظة جدية يعرف فيها هذا المواطن المستهتر بقيمة مصريته، والمتطوع بالتخلى عنها، أنه لو أطلق فى الفضاء فلن تقبل أى دولة أن يهبط على أرضها، خاصة لو كانت هذه الدولة أفضلذ  على الأقل من الناحية الفندقيةذ  من مصر.

Link