وقف جورج كارلين على خشبة المسرح لأكثر من خمسين عاما ليقدم كوميديا الرجل الواحد متحديا كل ما هو معتاد فى المجتمع الأمريكى بشكل عام، وضاربا عرض الإبداع بكل ما هو مألوف فى فن الكوميديا بشكل خاص، وكان أسلوبه الذى اعتمده طوال حياته هو أن يصدم نفسه أولا بأن يقول ما يخشى قوله، وأن يكون أول ما يفكر فيه هو آخر ما يتوقعه من نفسه وآخر ما يتوقعه الناس منه.

وتحول كارلين على مدار السنوات إلى أسطورة يتمنى أى صانع للكوميديا أن يقف مكانها يوما، أو حتى يقاربها، لكن الرجل وضع لنفسه قاعدة من شبه المستحيل أن ينافسه فيها أحد، وحول مسيرته الفنية إلى سلم يرتقى درجاته بسرعة ثابتة يحتاج أى كوميديان آخر إلى عشر سنوات أو أكثر ليصعد درجة واحدة منه.
كان كارلين يصنع فقرة طويلة يقدمها على المسرح طيلة موسم كامل، ثم يلقى بكل مادته التى نجحت طوال الموسم إلى القمامة ليعد غيرها مادة جديدة مع بداية الموسم الجديد، بينما كان غيره من الكوميديانات يكتفون بتجديد سطور قليلة من مادتهم كل فترة، بينما يبقى صلب مادتهم كما هو بلا تغيير لسنوات وسنوات.
والحقيقة أن كارلين لم يكن يعدم المواضيع التى يسخر منها، خاصة أنه كان متصدرا لانتقاد الثوابت والتابوهات الاجتماعية والنفسية والسياسية فى المجتمع الأمريكى الذى ينتمى إليه، وبهذه الطريقة ربى لنفسه قاعدة جماهيرية هائلة يشعر كل مشاهد أو مستمع أو قارئ فيها أن ما يقوله كارلين يخصه بشكل ما.
كانت فلسفته فى صناعة الضحك قائمة فى الأساس على فلسفة جادة فى الحياة، ونظرة عميقة أكثر جدية فى الأشياء وفى نفسه، وبالتدقيق يلاحظ جمهوره أنه يحمل شحنة كبيرة من الغضب وعدم الرضا عن حال المجتمع الأمريكى وحال الإنسانية برمتها، لأنه كان صاحب رؤية مثالية فيما يجب أن يكون عليه هذا الحال، وصرح مرة بهذا التناقض عندما قال ذات مرة إن «بداخل كل ساخر شخص خابت آماله».
لقد كان كارلين يشعر بخيبة أمل ناضحة فى كل شىء تقريبا.. كان يرى أن مجتمعه يتجه إلى هلاك محقق بسبب طبيعته القائمة على الاستهلاك، وكان يرى أن غرائز الامتلاك والتظاهر والافتراس والتنافس التجارى، وسياسة الدولة الأمريكية داخليا وخارجيا قد أفلحت فى تحويل المجتمع الأمريكى إلى هيكل متهالك مصيره السقوط يوما ما.
كانت السخرية الموجعة التى يقدمها كارلين فى كل مرة يقف فيها على المسرح أو يطل من الإذاعة أو يكتب مقالا أو كتابا تحقق مرماها فى تحفيز جمهوره على التفكير فى حياته، وفى التفكير جديا فى إحداث تغيير ما، كان الرجل الذى يرتدى ملابس سوداء دائما فى أواخر حياته يدق ناقوس الحذر ويرفع راية الخطر الأخيرة فى وجه أمريكا الشعب والحكومة والاجتماع والاقتصاد والعلم، ويقول إن الحضارة الإنسانية التى تمثلها الولايات المتحدة ليست هى المنحى الصحيح الذى يصح أن يقود الإنسانية أو يمثل حلمها المثالى.
صحيح أن كارلين كان يقود تيارا فلسفيا شديد التشاؤم، وشديد الجذرية فى المقاومة الثورية بالكلمة والضحك، لكنه رغم هذه السوداوية والتوجهات الهدمية كان إذا تعلق الأمر بالواقع الأليم للإنسانية الرجل الذى يعرف أكثر من غيره، والرجل الذى يرى بوضوح أكثر كما هو فى العادة طبع الفلاسفة الكبار والمبشرين الفكريين.
ولو كانت كل الكوميديا فى العالم تقطع من هذه الكتف، لجاء التغيير حاسما وثوريا وسريعا كما تمناه كارلين، ولكانت الكوميديا هى القاطرة التى تجر الإنسانية نحو تغيير مساراتها واختياراتها، لأنها كانت ستصنع الضحك من حيث يضحك الناس على أخطائهم وتصوراتهم المعيبة ونظرياتهم الحياتية الناقصة أو المعكوسة أو المتطرفة، لأنهم سيتذكرون فى كل مرة كيف يراها جورج كارلين وأمثاله من الساخرين، وكيف يمكن أن ينتقدوها إذا رأوها تحدث أمامهم.

Link