فى عام 1931 قرر ديكتاتور الاتحاد السوفيتى، جوزيف ستالين، حفر قناة ملاحية تربط بين البحر الأبيض على الطرف الشرقى لروسيا وبحر البلطيق، وقرر ستالين أن يتم هذا المشروع الطموح فى عامين فقط.
وفى سبيل حفر هذه القناة التى يبلغ طولها 227 كيلومترًا فى هذا الوقت القياسى، استعان ستالين بمئات الآلاف من عمال الجولاج المسخرين بلا أجر للعمل بالطرق اليدوية وحدها فى الحفر، وبالفعل انتهى العمل فى القناة التى كانت أطول قناة ملاحية صناعية فى التاريخ فى الوقت المقرر، وافتتحت بمرور سفينة يركبها ستالين تبحر فى مياه القناة وفى دماء ما يربو على مائة ألف شخص لقوا حتفهم أثناء العمل فى ظروف غير إنسانية وبلا أجر.
لكن القناة لم تحقق أيًا من أهدافها الاقتصادية المرجوة، لأنها لم تكن أكثر من عمل دعائى هدفه تمجيد الدكتاتور العبقرى البطل بانى الاتحاد السوفيتى العظيم، فقد جاء عمقها بسبب العجلة فى حفرها أقل من أربعة أمتار، وهو ما يجعل أى ترعة شقها المصريون فى ربوع الوادى والدلتا أكثر نفعًا فى الملاحة والنقل من تلك الترعة التى حفرها ستالين بدماء شعبه ودون نفع حقيقى يذكر لهم.
ومازالت القناة باقية معبرًا للقوارب الصغيرة فقط، وشاهدًا على المشروعات القومية الوهمية التى تستهلك قدرات البلاد والعباد، ولا تترك لهم إلا صورة للزعيم الخالد وهو يفتتحها ولا شىء آخر.
كانت هذه الصورة المخيفة هى أول ما طرأ بذهنى عندما رأيت الرئيس السيسى يطلب بأريحية مفرطة من رجاله أن ينتهوا فى عام واحد من حفر قناة السويس الجديدة، التى تتضمن بالتأكيد عملاً أضخم بكثير من ترعة ستالين، وتحمل بالتأكيد آمالاً أكثر من الشعب المصرى فى مستقبل تشق مساره فى الأرض عزائم رجال يعتمد عليهم.
وكنت أخشى أن ينتهى هذا المشروع نهاية أى مشروع قومى تسبقه الدعاية ويحيط سيره الغموض بالفشل الذى لا يورث إلا الإحباط، وكان أخشى ما أخشاه أنت ينتهى هذا العرض الإنسانى الفذ ببضع صور «تاريخية» لا أكثر.
ولم يطمئن قلبى إلا وأنا أشاهد السفينة «ساوثهامبتون» التى يبلغ غاطسها 8,41 قدم وهى تعبر القناة الجديدة فى أول تجربة لها، عندها أدركت الفارق، وعرفت – ومعى كثيرون من المؤيدين والحاقدين معا – أن المشروع بصمة حقيقية وضعها المصريون على هذه الأرض التى حولوها إلى لوحة لا تحمل إلا البصمات الإنشائية المعجزة والمحيرة.
وعلى شاطئ القناة، وأثناء العبور التجريبى الأول، تراصت قطع من الكبارى الميكانيكية التى استخدمها نفس الرجال فى عبور القناة إلى الشاطئ الشرقى المحتل للقناة، ليخطوا فى أكتوبر 1973 ملحمة من ملاحم شعب البناة المحاربين، الشعب المصرى.
وكأن الرسالة الصريحة تقول: «هذا الشعب الذى حفر القناة أول مرة، والذى حررها بالدم فى معجزة عسكرية، يستطيع أن يفعل أى شىء.. أى شىء».
لقد تحقق ما هو أكثر من شق بالأرض تمر منه السفن.. لقد تحقق الإمكان وتجسدت الاستطاعة، وأصبح من حق المصريين، ومن واجبهم الوطنى أيضا، أن يفرحوا ويحتفلوا بما حققوه بأيديهم وأموالهم وإرادتهم.
صدق الرجال وعدهم فى ظرف يصعب فيه تحقيق الوعود، وأثبتوا أن ظهورهم على عكس ما يشاع عنهم ظلمًا لا تشتهى سياط القهر والسخرة، وأن كل ما كانوا ينتظرونه هو كلمة صادقة، وإن كانت عفوية، ونية خالصة لله والوطن.
الحمد لله الذى عافانا مما ابتلى به غيرنا، والحمد لله الذى عافانا مما ابتلانا به لعشرات السنين، وهذه صفحة جديدة من التاريخ فاقلبوا الصفحات القديمة على ما فيها من إرث مرير على صفحات جديدة تضيؤها إنجازات لا أظن أن قناة السويس الجديدة ستكون آخرها.

Link