المسألة أكبر كثيرًا من ممر ملاحى يزيد من قدرة قناة السويس الاستيعابية من السفن المارة أو يختصر الوقت ويوفر المال لشركات الشحن وأصحاب الشحنات، ومهما بلغت أهمية هذا الممر الملاحى الجديد، فالمقصود بتنمية محور قناة السويس أكبر من ذلك بكثير.

لقد تأخر مشروع تنمية محور قناة السويس أكثر من ثلاثة عقود، وكان المفترض أن يبدأ هذا المشروع فور انتهاء الحروب وعقد اتفاقية السلام مع إسرائيل، على أساس الفهم اليقينى بأن تنمية محور قناة السويس وتنمية سيناء ضمانات للسلام والأمن فى هذه المنطقة التى تطمع فيها إسرائيل.
لكن العكس تماما هو ما حدث، حيث كان نظام مبارك يرى أن وقف الحركة تماما فى هذه المنطقة يحقق أمنها، وأن الاستثمارات الأجنبية استثمارات خطرة تتدخل فى القرار السياسى وتزعزع سيادة الدولة المصرية على هذه المنطقة، وهذه رؤية أمنية استاتيكية انتهجها مبارك فى الكثير من المسائل الشبيهة.
وفى الوقت نفسه كانت دول الخليج الناشئة، وعلى رأسها الإمارات، تدرك المعنى الديناميكى للأمن الذى يمكن أن يتحقق إلى جانب الاستثمار الأجنبى المكثف، وأنشأت الإمارات مدينة دبى لتكون المدينة الوسيطة الاستثمارية الخدمية فى منتصف الطريق بين أوروبا وآسيا.
ونجحت دبى – التى صمم مراحلها الأولى مهندس مصرى بالمناسبة – فى أن تصبح مركزا تجاريا مؤثرا، على الرغم من بعدها الجغرافى غير القليل عن خط الملاحة بين أوروبا وآسيا، حيث إنها تقع على الجانب الداخلى للخليج العربى، كما أنها تقع بعد مضيق هرمز المعرض دائما للطيش الإيرانى.
وإذا قورن هذا الوضع الجغرافى الحبيس لدبى بوضع أى ميناء مصرى على الإطلاق، سواء على البحر المتوسط أو البحر الأحمر أو على القناة نفسها، فسوف يكسب الميناء المصرى بالتأكيد من ناحية الموقع المناسب، ببساطة لأن كل الموانئ المصرية تقع على المسار الملاحى الأهم.
وهنا تكتسب عملية تطوير محور قناة السويس أهمية أكبر من حيث إنها منطقة جديدة خفيفة السكان، وتسمح ظروفها الجغرافية والسكانية بالعزلة النسبية التى تحتاجها المناطق الحرة فى بداياتها، لأنها مناطق ذات قوانين ونظم تجارية خاصة لا تختلط بالنظام القانونى والتجارى العام للدولة، كما أن الجانب الشرقى من القناة يبدو كالصفحة البيضاء التى تسهل الكتابة عليها أكثر من صفحات ملأتها الشخبطات المدينية والمعمارية والاقتصادية، وصارت تحتاج إلى الإصلاح قبل التطوير.
يحتاج مشروع تنمية محور قناة السويس إلى مركز تجارى واحد على الأقل يكون على شاكلة سنغافورة وهونج كونج ودبى، وهى مراكز تشترك مع بعضها فى نقاط تميز واحدة، على رأسها أن كل مدينة فى المدن الثلاث بها مطار أسطورى العمارة ومعجز فى قدرته وحجم نشاطه، وليس غريبا أن مطارات المدن الثلاث تحتل مراكز فى قائمة أفضل خمسة مطارات فى العالم!
كما أن كل مدينة من المدن الثلاث التى اتخذتها مثلا بها ميناء خدمى عملاق، والميناء الخدمى يضم إضافة إلى خدمات الشحن والتفريغ خدمات الصيانة والتموين، إلى جانب منطقة حرة مجاورة للأنشطة البحرية والملاحية والأنشطة التجارية والقانونية المتعلقة بها.
وبين المطار والميناء شبكة من الطرق والمرافق التى تضمن التطوير العقارى للمركز التجارى، حيث إن التطوير العقارى لهذه القلعة التجارية هو الضمانة الأكبر لاستقرارها وشحنها بسكان من كل الجنسيات، وربط المصالح فيها بكل شركة عملاقة فى العالم، وهو ما يضمن لها أمنها فى المستقبل.
والأهم من ذلك بالتأكيد هو حزمة القوانين التى ستحكم عمل الاستثمارات الأجنبية داخل هذه المدن، والتسهيلات التى ستمنح لهذه الاستثمارات على اعتبار أن هذه القوانين وتلك التسهيلات هى دائما نقطة الجذب التنافسية بين المراكز التجارية المختلفة.
وحتى لا نتصور أن مدنا تجارية يمكن أن تنشأ على ضفاف القناة بمجرد بناء مطار أو حفر ميناء أو شق طريق، علينا أن نتذكر أن الإرادة السياسية الصادقة فى تحقيق التنمية الاقتصادية بهذه الطريقة المرنة التى تحتاج إلى كثير من المخاطرة والتحمل، هى الأساس الحقيقى والأهم فى إقامة هذه المدن.
ولعل ذات الروح التى شقت القناة الجديدة تستمر لتحقق أحلام وآمال الخطوة القادمة.

Link