لم يكن عندى شك فى أن المستشار أحمد الزند، وزير العدل المقا ل، كان بالفعل إحدى ضحايا التغيير الوزارى المرتقب، لكن أقدار الله شاءت أن يقطف قبل أوانه لتتخلص الحكومة المصرية من وجه كان تعيينه فى منصبه منذ البدء مسببًا للاستفزاز ومدعاة للتساؤل.
وذهب الزند وترك لنا رصيدًا غير منكور من العبرة، علينا أن ندرسه ونتدارسه قبل أن ينضم إلى تاريخنا المعاصر، وعلى كل مسئول أن يصوغه حلقة يضعها فى أذنه كى لا ننسى ولا ينسى.

كانت جدتى إذا ما رأت رجلا يحاسب الناس بالخردلة تقول: يا ولدى من غربل الناس نخلوه، وما أدراك ما ضيق فتحات المنخل إذا ما قورنت بفرجات الغربال.. والحكمة المرعية هنا هى أن الرجل الذى كان يستشهد بالتعالى على مقام سيد العالمين والآخرين على جرأته على محاسبة أى شخص يخطئ فى حقه، ولو كان صحفيا ولو كان نبيا، هو ذاته الرجل الذى لم يجد متعاطفا معه، عندما زل لسانه بخطأ أنا على يقين أنه لا يقصد فيه الإساءة، لكنها زلة تفوت من الغربال ولا تفوت من المنخل.
لم يكن تصريح الزند الأخير تصريحه السيئ الوحيد، وله من التصريحات المثيرة للجدل أو للغضب الكثير، فما بين دعوة لمعاقبة أم الإرهابى رغم مبدأ شخصية العقوبة فى قانون العقوبات، وبين الدعوة إلى قتل عشرة آلاف إخوانى فى كل شهيد من الجيش أو الشرطة، رغم أوليات العدالة التى تأبى هذا الطرح الجاهلى، وحديثه عن «الزحف المقدس» لأبناء القضاء الذين يجب أن يحملوا رسالة القضاء بعد آبائهم، وغير هذا الكثير.
ويبدو أن الزند قد ظن نفسه حصينا منزه القول، لا مثل سلفه الذى أطاح به تصريح أكثر عبطا عن ابن عامل النظافة الذى يجب أن يكون عامل نظافة هو الآخر، وعندها هاج الرأى العام وماج انتصارا للفقير الذى أحرجه وزير العدل وهو وزير للعدل ممثل لميزانه الذى يجب ألا يحيد.
لكن الناس الذين غضبوا من الوزير الأسبق لصالح الفقير، غضبوا من الزند أكثر عندما جنح بالتعدى على سيد الفقراء والأغنياء معا، وهى غضبة قليل منها سياسى واستغلال للسقطة، لكن أكثرها راجع إلى محبة المصريين للحبيب الأعظم، وهو مقياس تدركه القيادة السياسية جيدا، واختارت أن يكون هذا بالتحديد السبب الذى تنزع به شأفة الزند.
وعندما طلب رئيس الوزراء من الزند الاستقالة، أدرك الرجل ذو الأنياب الزرق أنه يعزل فى ملابسة تسحق مستقبله السياسى والقضائى كاملا، فطلب أن يقال خيرا له من أن يخير فى الاستقالة، وهذه دلالة على سوء التقدير المؤكد، فالاستقالة كانت أفضل كثيرا، وكانت ستبدو اعتذارا أكثر مما ستبدو الإقالة عقابا.
لكن افتقار الزند للباقة الكلام كان فيما يبدو مجرد انعكاس لافتقاره للحذق السياسى اللازم لرجل مثله، يشغل منصبا رفيعا ولديه تطلعات حولته إلى عنكب قائد وسط شبكة واسعة من العلاقات تضم عناكبها التى لا تخفى تطلعاتها هى الأخرى، ولها شبكاتها هى الأخرى.
كانت الانتفاضة السريعة التى خدمت على الفور من بعض القضاة احتجاجا على الإطاحة بالزند مؤشرا على أن الجماعة القضائية لا تخلو من الروح القبلية التى ينحاز بعضها لبعض، ولعل علة التوريث فى صفوفها ليست أكثر من صورة من صور هذه القبلية المتغلغلة، ويبدو أن الزند كان يتزعم هذه القبيلة بما يلقى فى هواها هوى.
لكن القبيلة كانت أذكى عقلا من شيخها، وسارعت فى نفض يديها منه مستوعبة أن ثورة الثلاثين من يونيو ليست مدينة بفواتير تزن الرجال أثقل من الدولة، وأنها حركة مستعدة للاقتيات على لحم بعض رجالها إذا لزم الأمر، وأن الزند لم يكن سوى فريسة وضعت نفسها بسهولة بين فكى الحركة الضروسين فى وقت استساغة وهضم.

Link