كانت كوبا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضى ملعبا حصريا لمتعة السياح الأمريكيين، وكانت شواطئ هافانا تضج بقرقعة الكؤوس وضحك فتيات الليل وصيحات المقامرين، بينما كانت الأراضى الزراعية والشركات الصناعية والتجارية والخدمية فى كوبا مملوكة بشكل شبه كامل لأمريكيين أو لشركات أمريكية. وكان حاكم كوبا، فولجينسيو باتيستا، ديكتاتورا وحشيا يقود البلاد بقبضة عسكرية حديدية، بدعم ومباركة من واشنطن.

لكن الشعب الكوبى انتفض ضده، وبعد سنوات من حرب العصابات فى الجبال والغابات، دخل محام فى الثالثة والثلاثين من عمره هافانا على رأس قواته المتمردة على حكم باتيستا ليطيح به فى يناير 1959، وكان هذا المحامى الشاب هو فيديل كاسترو.
ووعدت الثورة الوليدة الشعب بإصلاحات كبيرة فى مجالات التعليم والصحة والإسكان والعدالة الاجتماعية، والأهم من ذلك أن كاسترو أمم ملايين الأفدنة من الأراضى الزراعية المملوكة لشركات أمريكية وأعطاها للفلاحين.
وللإعلان عن نفسه وعن حكمه وعن نوايا ثورته، توجه فيديل إلى نيويورك ليلقى كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن الجنرال أيزنهاور رفض لقاءه، فى الوقت الذى رحب فيه نيكيتا خورشوف، الرئيس السوفيتى، بلقائه وتحيته تحية تليق بقائد ثورى، وعرض عليه مساعدات اقتصادية.
لم يكن كاسترو فى بداية ثورته شيوعيا، لكن حليفه الوحيد فى هذه المرحلة الصعبة لثورته كان شيوعيا، بل كان رئيسا للاتحاد السوفيتى نفسه.
وقررت كوبا شراء النفط من الاتحاد السوفيتى بسعر مخفض، لكن المصافى الأمريكية رفضت تكرير النفط السوفيتى، وبدلا من أن ينتظر كاسترو كارثة اقتصادية بسبب نقص الوقود، أرسل ميليشياته لمصادرة مصافى التكرير المملوكة لشركات تسكساكو وشل وإسو الأمريكية.
وجاء الانتقام الأمريكى سريعا، فقد أعلن أيزنهاور فى مؤتمر صحفى بالبيت الأبيض خفض حصة كوبا فى سوق السكر فى الولايات المتحدة بنسبة 95%، علما بأن القطاع الزراعى الكوبى يقوم بشكل شبه كامل على زراعة قصب السكر.
وردا على هذا الرد بادر كاسترو بتأميم ما يساوى مليار دولار من الاستثمارات الأمريكية فى كوبا، ورد أيزنهاور بفرض الحظر الكامل على كوبا، وأمر المخابرات المركزية الأمريكية بتجنيد جيش كوبى معارض لحكم كاسترو من الكوبيين الهاربين فى الخارج.
ودرب عملاء المخابرات الأمريكية جيش المطاريد على التفجير وعلى حرق حقول قصب السكر، مورد الرزق الوحيد للمزارعين الفقراء.
واستمرت الأعمال التخريبية التى وصفها كاسترو فى شهادته بالحرب القذرة، وسقط المئات ضحايا للتفجيرات التى دبرها المخربون الذين دربتهم وسلحتهم وتمولهم واشنطن، ولم يجد كاسترو غير الاتحاد السوفيتى ليطلب منه المساعدة.
وهتف خورشوف بنفسه أمام المؤتمر العام للحزب الشيوعى السوفيتى باسم الشعب الكوبى الثائر، وباسم فيديل كاسترو.
وفى قاعدة سرية فى أحراش جواتيمالا، دربت الولايات المتحدة جيشا صغيرا من المنشقين، وجهزتهم لغزو كوبا عند صدور الإشارة من واشنطن، لكن هذه الإشارة لم تصدر فى عهد أيزنهاور، وجاء جون كينيدى ليرث المؤامرة كاملة، واستخدم هذا الجيش فى محاولة غزو كوبا من ناحية الجنوب، وبالتحديد عبر إنزالهم من البحر فى منطقة خليج الخنازير.
لكن كينيدى أجرى تعديلات على الخطة فى محاولة لإخفاء آثار الدور الأمريكى فى المؤامرة، وألقى خطابا قبل الغزو بثلاثة أيام نفى فيه وجود أى نية لدى أمريكا للتدخل العسكرى فى كوبا.
وكانت الخطة تتضمن ضربة جوية أمريكية مركزة تستهدف تدمير القوات الجوية الكوبية على الأرض، لكن الخوف من فضح الدور الأمريكى فى هذه العملية قاد كينيدى إلى خفض حجم الضربة الجوية إلى أقل قدر ممكن.
ففى 15 أبريل عام 1961 أقلعت ست طائرات حربية أمريكية مموهة بألوان القوات الجوية الكوبية من قاعدة فى نيكارجوا لتقصف القواعد الجوية الكوبية، وبسبب قلة الطائرات المهاجمة، لم تفلح الضربة التمهيدية إلا فى تدمير ثلاث طائرات كوبية.. وقتل سبعة مدنيين.
وأثناء دفن هؤلاء السبعة فى جنازة مهيبة فى هافانا، وبحثا عن الدعم السوفيتى، وللمرة الأولى، أعلن كاسترو أن ثورته ثورة اشتراكية.
وللحديث بقية فى المقال القادم إن شاء الله.

Link