الحقيقة أن عداء الولايات المتحدة لحكم جاكوبو آربينز فى جواتيمالا لم يكن بسبب الميول الشيوعية لبعض من حلفائه الذين تغلغلوا إلى مواقع مؤثرة فى السلطة، ولم تأت محاولة الإطاحة به بسبب تأميمه لأراضى شركة يونايتد فروت الأمريكية التى كانت تحتكر زراعة الموز فى جواتيمالا وتملك خطوط الهاتف والسكك الحديدية والميناء.

الحقيقة هى أن الولايات المتحدة كانت تعرف جيدا أنها تحتاج إلى نظام ديكتاتورى يمهد لها السيطرة الاقتصادية على جواتيمالا، فقد كان الكولونيل آربينز الثمرة النهائية لثورة شعبية قامت فى 1944 ضد الديكتاتور خورخى أوبيكو ذ كاستانيكا، الذى كان يحكم البلاد بالحديد والنار بدعم من الولايات المتحدة.
وبعد الإطاحة بأوبيكو، أجريت فى جواتيمالا أول انتخابات ديمقراطية جاءت بخوان خوسيه أريفالو الذى أراد تحويل جواتيمالا إلى رأسمالية ليبرالية، وقام فى سبيل ذلك بإجراء إصلاحات اجتماعية من بينها إصدار قانون بوضع حد أدنى للأجور، وزيادة التمويل للتعليم.
ثم انتخب الكولونيل آربينز، الذى كان وزيرا للدفاع فى حكومة أريفالو، رئيسا للجمهورية فى 1950، ولم تكن مشروعاته الإصلاحية إلا تكملة لسياسات سلفه، ومن بينها مشروعه للإصلاح الزراعى الذى أشعل العلاقات بينه وبين واشنطن.
لم تجد الولايات المتحدة غضاضة فى محاربة الخيارات الديمقراطية للشعب الجواتيمالى، ولم تجد فى أدبيات الديمقراطية وحقوق الإنسان ما يمنعها من الإطاحة بالثورة الجواتيمالية وبإصلاحاتها لصالح ديكتاتورية جديدة تعيد الشعب الجواتيمالى إلى عمالة ظالمة لا تزيد على العبودية فى أراضى الشركات الأمريكية.
وفى عام 1952 صدق الرئيس الأمريكى هارى ترومان على عملية PBFORTUNE لإسقاط آربينز بدعم من ديكتاتور نيكاراجوا آناستازيو سوموزا جارسيا، لكن هذه العملية ألغيت عندما افتضح الكثير من تفاصيلها.
وفى العام نفسه انتخب دوايت دي. إيزنهاور رئيسا للولايات المتحدة، وفى جعبته وعود بتعامل أكثر صرامة فى مواجهة الشيوعية، كما أسهمت علاقات وزير خارجيته جون فوستر دالاس وشقيقه رئيس المخابرات المركزية الأمريكية آلان دالاس بشركة يونايتد فروت كومبانى، فى دفعه بقوة أكبر نحو الإطاحة بآربينز.
وصدق إيزنهاور فى أغسطس 1953 على خطة جديدة للإطاحة بآربينز تحمل اسم PBSUCCESS ، وبالإضافة إلى شحن الكنيسة الكاثوليكية ضد آربينز باتهامه بالشيوعية، وإثارة شعب كاثوليكى حتى النخاع بأن الشيوعية ضد المسيح، سلحت المخابرات المركزية الأمريكية ومولت ودربت قوة من 480 رجلا تحت قيادة شخص يدعى كارلوس كاستيو آرماس.
واحتلت هذه القوة العميلة جواتيمالا فى 18 يونيو 1954، ومن ورائها حملة ضارية من الحرب النفسية التى تضمنت قصف مدينة جواتيمالا سيتى، وبث إرسال إذاعة معادية لآربينز تنشر الشائعات بدعوى أنها الأخبار الحقيقية.
ورغم صغر القوة الغازية، فإن حملة الحرب النفسية، وتوقعات البعض باحتمال انضمام أمريكا إلى هذه القوة لاستكمال غزو جواتيمالا فتت فى عضد الجيش الجواتيمالى الذى رفض الدخول فى مواجهة، وفضل التخلى عن آربينز الذى قدم استقالته على الفور، وبعد مفاوضات جرت فى سان سلفادور، أصبح كارلوس كاستيو آرماس، قائد القوة العميلة للمخابرات المركزية الأمريكية، رئيسا لجواتيمالا فى السابع من يوليو 1954.
ولقى هذا الانقلاب انتقادات دولية واسعة، لكن الولايات المتحدة لم تلتفت إلى هذه الانتقادات، ولم تلتفت أيضا إلى أن هذا الانقلاب خلق مشاعر معادية للولايات المتحدة فى أمريكا اللاتينية التى شهدت قضاء واشنطن على الديمقراطية الوليدة فى جواتيمالا لصالح ديكتاتور مثل آرماس.
فقد استولى آرماس فورا على كل السلطات وانفرد بها، وحظر كل الأحزاب السياسية، وقتل وسجن وعذب خصومه السياسيين، والأهم من ذلك أنه قدم لواشنطن القربان الذى من أجله نصبته رئيسا للبلاد، وهو أنه ألغى الإصلاحات الاجتماعية التى حققتها الثورة الجواتيمالية.
وظلت سلسلة من الحكومات الديكتاتورية المستبدة تحكم جواتيمالا حتى 1996 بدعم مباشر من واشنطن التى غضت البصر عن الفظائع التى ارتكبتها هذه الحكومات فى حق الشعب الذى تمرد على قمعها، والتى لم تر بأسا فى أن يرتكب الجيش الجواتيمالى فى مواجهة تمرد الميليشيات اليسارية انتهاكات لحقوق الإنسان وصلت إلى الإبادة العرقية لشعب المايا.
وللحديث بقية فى المقالات القادمة إن شاء الله.

Link