كان فى قريتنا التى تقع وراء التاريخ بقرن من الزمان على الأقل بقال خمسينى قصير القامة أصلع الرأس إلا من قليل، وله كرش مكور بارز عجيب البنية ولا يتناسق مع بقية بنيته المعتدلة إلى حد كبير، وكان اسمه عم عبدالجليل أبونوفل.

وكان عبدالجليل البقال يحفظ لنفسه ميزة نسبية فائقة فى فرض رأيه على الجميع، مهما كان فى هذا الرأى من شطط أو جهل أو معاندة، فمعارضة عبدالجليل كان من الممكن أن تجلب حرمانا من البيع بالأجل، أو من الاستدانة النقدية، وهى مسائل حياة أو موت فى قريتنا التى تعرف السيولة النقدية بمعدل ما تعرف الصحراء الكبرى المطر.. كانت قريتنا ترى النقود مرة بعد جمع القطن أو ضم الأرز، ومرة ثانية بعد بيع الماشية التى تسمن على زرعة البرسيم الشتوية، بينما كانت القروش لا تجف بين يدى عبد الجليل طوال العام.
وربما أدت معارضة عبدالجليل فى الرأى إلى الاستبعاد من حوش دكانه الذى حوله إلى منتدى سياسى وثقافى واجتماعى لمجرد أنه وفر فيه ثلاث دكك خشبية، وجوزة عامرة دائما بالمعسل، وصينية عليها بعض من لب البطيخ ولب القرع والفول السوداني.. كانت إمكانيات المنتدى قليلة، لكنها كانت كافية لحشد عشرات من رجال القرية وصبيانها كل مساء لا لعلة إلا لأنها مجانية، لا يدفع فيها الواحد منهم إلا جزءًا من انتباهه الذى يوليه لعبدالجليل الذى كان يحول بنك دكانه إلى منبر يلقى من فوقه آراءه اللوذعية.
وللإنصاف، كان الرجل موهوبا فى أدائه الحركى الذى كان يشبه كثيرا أداء الزعيم النازى أدولف هتلر المسرحي، لكنه كان فطريا طبيعيا عند عبدالجليل، بينما احتاج المرحوم هتلر إلى دروس مضنية كى يتمكن من ناصية هذا الأداء.
باختصار، كان عبدالجليل يمتلك المنبر والجمهور، وعلى مستوى قريتنا الصغيرة كان الرجل زعيما بكل معنى الكلمة، لكنه كان جاهلا بمعنى الكلمة أيضا، صحيح أنه كان واحدا من القلائل الذين يجيدون القراءة والكتابة فى قريتنا، وأنه كان يقرأ الصحف التى يشتريها بائتة من المركز أسبوعيا مع بضاعة دكانه، بل إنه كان يحفظ فقرات من المقالات الصحفية عن ظهر قلب، ويرددها وكأنها من بنات أفكاره.
لكن الحقيقة أنه كان جاهلا جهلا عميقا، ولم تكن معرفته بالقراءة والكتابة أو ثقافته العامة إلا زيادة فى الجهل، فالعلم للجاهل الأصيل آفة تورث الحماقة، ومثلها مثل السلاح الخطير الذى تعطيه للجاهل بالرماية، فيصبح أكثر خطرا على نفسه وعلى غيره.
ظل عبدالجليل المتحدث الوحيد بالسياسة فى قريتنا منذ ثورة يوليو وحتى حرب الخليج الأولى التى صمت فيها إلى الأبد، فقد كان هذا الحدث أكبر بكثير من إدراكه ومن إدراك الجميع، ويبدو أن عجزه عن تحليل الموقف سبب له هما ثقيلا تحالف مع أمراض الشيخوخة التى حاصرته فقضى عليه.
وكان قبل ذلك يفتى ويصول ويجول فى دهاليز الحرب الباردة، ويحلل المواقف فى ملفات هذه العقدة العالمية التاريخية بجرأة ما كان هيكل نفسه ليقدم عليها، ويفكك قضية الشرق الأوسط برؤية متطرفة ضد العرب، وتلوم الفلسطينيين دائما على ضياع الأرض، وتمجد فى التفوق الإسرائيلى الذى حققه اليهود «بعملهم وتعبهم وكَدَحِهم».. كان ينطقها هكذا لتناسب الوزن والسجع مع الكلمتين السابقتين.
حتى  جاء ذلك اليوم الأغبر من أغسطس ليصحو الناس على نبأ احتلال صدام حسين للكويت، وتبعته تلك الأيام الغبراء التى امتلأت فيها أسطح البيوت بالأطباق اللاقطة، وامتلأ الفضاء بقنوات لا حصر لها ولا عد، وامتلأت هذه القنوات بمحللين هم أيضا يتكلمون بنفس اليقين الذى كان يتكلم به عبدالجليل، ويفتون فى كل شيء ويفككون القضية!
وانفض الجمهور عن دكان عبدالجليل أبونوفل، وتركوه ولب البطيخ وحده، ودخل الرجل فى صمت شفاف نبيل رافقه حتى وافته المنية، ورحل بوق القرية المفوه أخيرا تاركا وراءه تراث أول قناة فضائية عرفتها فى حياتي.. الدكك الخشبية الثلاث وبنك الدكان وصينية التسالى.

Link