ترى لماذا عبر المصريون على شبكات التواصل الاجتماعى عن خيبة أملهم الشديدة عندما صدر بيان وزراء خارجية دول المقاطعة دبلوماسيا هادئا، وخاليا من النص على إعلان الحرب على قطر، أو من تسيير الجيوش الجرارة إلى حدودها، أو على الأقل من النص على إجراءات قاسية تكسر رقبة تميم المجد الوهمى وتفطر قلب أمه عليه؟ ولماذا فى الأصل تخيلنا أن هذا الاجتماع لا بد أن يتمخض عن ضربة نووية فى سويداء الدوحة على أقل تقدير؟
وعلى الرغم من أننا نعرف أنه ليس اجتماعا حاسما، وأنه ليس كل ما تتخذه الدول من إجراءات تعلنه، ونعرف أن اللجوء لحل عسكرى للأزمة مع قطر أبعد ما يكون عن المحتمل أو المتوقع، لماذا أصابتنا طبول الحرب التخيلية بهذه اللوثة القتالية وجعلتنا نتخلى عن يقيننا العقلى بالممكن والمتاح، ثم نعود بخيبة من خرج إلى الحرب وعاد مهزوما؟
كيف حدث الصعود فى الروح العامة إلى درجة إعلانات الحرب، وكيف عادت هذه الروح بأناشيد الهزيمة، رغم أننا لا نعرف ما يجرى من مفاوضات ولا نطلع على ما يجرى من خطوات على الأرض؟
الحقيقة أن إجابة هذه الأسئلة الإنسانية ستعيدنا إلى ما يشبه حلقة من حلقات برنامج «عالم الحيوان».
فالمعروف أن الجماعات البشرية لها نفسية خاصة تختلف عن نفسية الإنسان الفرد، ولهذه النفسية شعبة فى علم النفس مستقلة عن علم نفس الأفراد، وهى طبيعة لها نوازعها التى تؤدى إلى سلوك بشرى جماعى ربما يناقض فى بعض الأحيان سلوك أى فرد فى هذه الجماعة البشرية، وربما جاء أى فرد داخل هذه الجماعة بتصرفات ليست من طبيعته، لكنها تصدر عنه بحكم وقوعه تحت تأثير نفسية الجماعة، أو ما يعرف أحيانا بنفسية الغوغاء.
وربما سميت نفسية الجماعة فى بعض الأدبيات باسم نفسية الغوغاء، لأنها سيكولوجية تجنح فى العادة إلى العدوانية، وهى نازعة لها قدرة على إطلاق طاقة العنف فى قلوب أفرادها، لأنها تبعث من عقلهم الجمعى ذكريات أصيلة تعود إلى عصور الهمجية الأولى، عندما كان الإنسان يستخدم أخلاق الغوغاء تلك فى أعمال الصيد والدفاع والإغارة.
ومهما طمرت سنوات الحضارة قدرا من هذه النفسية الجمعية العنيفة، تظل فى النهاية مجرد قشرة رقيقة مستحدثة، لا تقمع إلا القليل من طباع الإنسان الفطرية التى لا تختلف كثيرا عن طباع غيره من أنواع الحيوانات فى فصيلة القردة العليا، مثلها فى ذلك مثل سرايا الشيمبانزى فى غابات الكونجو المطيرة التى ما زالت تصطاد وتدافع وتغير وتتشاجر على أساس منضبط من سيكولوجيا الغوغاء، ومثل عصابات البابون فى سافانا شرق أفريقيا التى تتحارب مع القطعان المنافسة بنفس الطقوس.
والأغرب أن القردة العليا حيثما وجدت تستخدم الدق على الصدور أو الطرق على الأشجار أو ضرب الأرض بالقبضات أو بالعصى وفروع الأشجار قبل وأثناء المعارك التى تخوضها، وهو السلوك الذى طوره الإنسان العصرى إلى استخدام الطبول للإعلان عن الحروب، والتى تحولت فيما بعد إلى موسيقات عسكرية حماسية تؤدى ذات الغرض، وسرعان ما تحول دق القردة على الأشجار إلى بوستات على فيس بوك ومقالات فى الصحف وفقرات فى برامج التوك شو.
وكذلك حسبناها طبول الحرب، فأخذتنا نشوة الاحتشاد للغزو والإغارة، وظننا أننا نشم رائحة دماء النظام القطرى، وأن الشمس لن تبلغ كبد السماء حتى تكون أكباد قيادات الإخوان الهاربة هناك متبلة على موائدنا بالخل والليمون، فعندما انقضى اليوم دون ما يشبع غرائز القرود فى نفوسنا عدنا نلعن الغابة كلها التى كنا نريدها أن تسير على هوانا النسانيسى المتحفز، والتى نستنكر عليها أنها لا تشاركنا دق الصدور والتنطيط على فروع الأشجار، وتخوض حربها بروية وثبات دون طبول!!
ملحوظة: أعرف أن محاولة تطبيق هذه الأوليات العلمية على مجتمعنا الذى يستنكف أن يكون مادة للدراسة أمر قد يفسر على أنه إهانة، خاصة أن مصطلحات مثل «الغوغاء» و«الهمجية» و«القردة العليا»، هى مصطلحات لا نستخدمها إلا فى السباب، لكنها فى النهاية مصطلحات علمية لها مضامينها المتفق عليها، وهى تنطبق على كل المجتمعات مهما بلغ تحضرها.
ولمثل هذه المقاربات العلمية بين الإنسان والحيوان تنفق الدول مليارات الدولارات على استكشاف الحياة البرية، وعلى محاولة تفسير سلوك المخلوقات الأخرى التى تفسر بدورها جزءا من غرائزنا وسلوكنا، وبحثا عن مثل هذه النتائج ينكفئ علماء الحيوان وعلماء الحفريات وعلماء الإناسة على كتبهم وفى معاملهم ويهلكون أعمارهم وسط مخلوقات الله فى الطبيعة.