تجدد الغزو الصيفى السنوى لقناديل البحر لسواحل مصر الشمالية ليخلع خبراء شبكات التواصل الاجتماعى ثياب خبراء الحدود والقانون الدولى وجغرافيا الجزر، ويرتدون زعانف خبراء الغطس وعلماء البحار وجهابزة التيارات البحرية، وسحب كل منهم دلوه من اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، ليدلى به فى قاع البحر المتوسط، وليستكشف به أخلاق قناديل البحر اللاسعة، وعلاقتها المركبة بالسلاحف البحرية الخضراء.
ولا زال الإنسان المصرى على شبكات التواصل يصنع العجب متنقلا بين قضية وقضية، وبين أزمة وأزمة، وبين ظاهرة وظاهرة، تتبدل به الظروف وتدور عليه الأحوال، ولا يتخلى أبدا عن دور الخبير، ولا يتركه قط حتى يلقى برأى أو يأتى بفتوى.
ولا أظن الأيام تأتى بخبر لا يكون خبير الفيس بوك به عليما، ولا أحسب الله قد خلق خلقا لا يعرف هذا الخبير كل خباياه، ولا أنه أنشأ شيئا لا يملك هذا الخبير فيه ظنا ورأيا وحكما.
وكنت قد كتبت مقالات سابقة عن دور شبكات التواصل الاجتماعى فى تعزيز الفلسفة الفردانية، وما أنتجته هذه الفلسفة من شعور كل فرد بأنه مؤسسة قائمة بذاتها، وأنه على هذا الأساس يشعر بأنه «ملتزم» بالقيام دائما بدور المتحدث الرسمى باسم هذه المؤسسة التى ليس فيها سوى شخصه الكريم، فلا يليق أن يمر على الكوكب عابر ولا يصدر عن مؤسسة «فلان المفرد» بيان بخصوصه!
فإذا أضفنا لهذه الظاهرة حقيقة أن شبكات التواصل الاجتماعى عديمة الشعور، لكنها تتغذى على المشاعر، لفهمنا السبب ولبطل العجب من ظهور خبراء قناديل البحر اليوم، ومن ظهور خبراء قنادس النهر وأساتذة سحالى البر وغربان الجو فى أى لحظة منتظرة.
فشبكات التواصل الاجتماعى لا تحزن للمصائب كما يبدو، مهما اتشحت صور البروفايلات بالسواد، ومهما غرقت الجدران التخيلية بعبارات تقطر الأسى والأسف، ومهما علت الدقات الجنائزية فى بوستات المستخدمين، لكنها تتغذى على شعور الحزن الذى يأتيها كمدد إلهى يدفع فيها موجة التريند، ويشبع فيها غريزة استهلاك التطرف الشعورى الذى يهلك بمجرد موت التريند مفسحا المجال أمام قادم جديد.
وهى لا تغضب للمنكرات كما يبدو، مهما ارتفعت الحناجر التخيلية بهتافات الحنق، ومهما احتشد سكانها فى مظاهرات الاحتجاج والرفض، ومهما تكاثرت النصال على هيئة هاشتاجات تطالب بالعقاب وتنذر بالخراب وتحذر بالثبور وعظائم الأمور، لكنها تتغذى على شعور الغضب الذى هو فى الحقيقة منقذ لها من حرج تريند الحزن السابق الذى لم يؤد إلى شىء، ووقود لتريند الغضب الجديد الذى سيحمل راية التريند إلى تريند جديد.
وبدون هذه المشاعر الجارفة ستغيب عن شبكات التواصل الاجتماعى طاقتها الدافعة، فتصبح كالقاطرة المعطلة التى انقطع منها الوقود. وبدون موجة بتجرى ورا الموجة – على رأى الست أم كلثوم – ستتحول شبكات التواصل الاجتماعى إلى بركة أسنة ماتت أسماكها، وجاعت حيتانها وقروشها وتوقفت تياراتها وباتت بلا روح ولا نبض.
الواقع أن الخبير الفيسبوكى مضطر للقيام بهذا الدور وليس متطوعا به كما قد نظن، فبديل هذا الدور ألا ينشر على صفحته إلا حقائقه التافهة حول أخبار حياته العادية، وآرائه الصادقة فى طبيخ أمه وغسيل زوجته، أو فى غباء أبيها وشخير زوجها.
والواقع أن شبكات التواصل الاجتماعى مضطرة لتبنى هذه المشاعر المتطرفة المتغيرة من تريند إلى تريند، فبديل هذا أن تتحول إلى شبكات للتواصل الاجتماعى الحقيقى بين بشر حقيقيين مضطرين إلى ممارسة حياتهم الطبيعية بشخوصهم الطبيعية ومجريات حياتهم الإنسانية الطبيعية.
ستختفى القناديل مع نهاية موسمها الصيفى، أو مع نهاية موسم التصييف نفسه، لكن تريند قناديل البحر سيختفى اليوم أو غدا على الأكثر، وربما يكون قد اختفى حتى قبل كتابة هذه السطور. وستختفى معه كل مشاعر القلق والخوف والغضب والحزن وخيبة الأمل التى صاحبته، وستختفى معه كل البوستات التى فسرت الظاهرة، وكل البوستات المضادة التى شككت فى هذه التفاسير وقوضت قواعدها، وكل البوستات التى عزت الأمر إلى مؤامرة، وكل البوستات التى كشفت أثرها على الأمن القومى، وتلك التى ربطت بين السلاحف الخضراء ومجريات الأزمة مع قطر، وتلك الأخرى التى وضعت قناديل البحر طرفا فى الصراع الانقلابى الإخوانى.
وجل ما أريده هو ألا ننسى ونحن ندبج الهاشتاج اللوذعية عن انتشار القراميط السوداء فى الرياح التوفيقى، أو نكتب البوستات الحراقة عن انقراض الأبراص الحمراء فى غابات أعلى الأمازون، أنها لا تعبر آراءنا ولا مواقفنا ولا حتى معارفنا، وإنما هى بياناتنا الرسمية الصادرة عن مؤسساتنا الذاتية الوهمية بخصوص مشاعر لا أثر لها سوى ما نكتب وما ننشر على الصفحة الزرقاء.