يحتاج هذا المقال إلى مقدمة أكبر منه حجما للتذكير بأن جهل الشعوب مسئولية الدول، وأن اختراق إرادة الشعوب مسئولية الدول أيضا، وأن غياب الأوليات المرجوة كلها من الشعوب من مسئوليات الدول التى لا تتجزأ لا بقدر ولا بوقت.

ومع ذلك لايزال هناك مجال للحديث عن الفارق الجوهرى بين «نسق الدولة» و«نسق الأفراد» الذى تحدث عنه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى خطابه الأخير الذى سعى فيه إلى توضيح موقف الدولة من ترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية، والذى أوقع جزيرتى تيران وصنافير داخل الحدود السعودية، مما أثار موجة عارمة من الاستياء والغضب يعلم الله وحده إلى أين تقف.. إن وقفت.
وفى محاولة لترجمة هذه العبارة- التى بدا لى أنها أكثر تعقيدا من موقف الجزيرتين نفسه- تصورت أن الرئيس ربما يتحدث عن المواقف التاريخية بين الدول، والتى تبين لنا أن ما يخفى منها أكثر بكثير مما يظهر، والتى كان عماد «الوضوح» فيها هو سلسلة من المراسلات «السرية» والأرشيفات «السرية».
ثم تصورت أن الرئيس يقصد أن نسق الدولة المصرية يسعى فى الوقت الحالى إلى تعضيد فرص ولى ولى العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، فى اعتلاء العرش السعودى بعد والده الذى أطال الله عمره، وهو ما استدعى أن تأتى الدولة المصرية على ما تبقى من مصداقيتها وثقة الشعب فى أمانتها على الأرض، فى مقابل عودة الأمير الشاب بمكسب دبلوماسى يضاف إلى مكاسبه غير المحققة فى حربه فى اليمن، ليظهر الشاب بمظهر بطل الحرب وبطل الدبلوماسية.
وهذا المسعى مبرر برغبة مصر فى وضع بصمتها على مصير البيت السعودى بما يخدم مصلحتها، بما يبعد عنها إمكانية صعود محمد بن نايف الذى ينذر توليه للعرش بسنوات عجاف فى العلاقات المصرية السعودية.
لكنه مبرر – لو كان داخلا فى الحسابات وأحسبه كذلك- كلف الدولة المصرية ذات النسق الكثير مما يفت فى هذا النسق نفسه ويشكك فى وجوده أصلا.
تحدث الرئيس عن فارق جوهرى بين ما تقوم به الدول بوصفها دولا، وبما يقوم به الأفراد لأنهم مجرد أفراد، لكن الواقع يتحدث عن نسق فردى واضح تحركت به الدولة، حتى وإن كان القرار قد جاء نتيجة لعمل متكامل شاركت فيه مؤسسات الدولة كلها كما قال الرئيس.
فأنساق الدول التى نسمع عنها لا تبذل جهدا إيجابيا فى الفصل فى قضية قومية كحدود الإقليم لصالح دولة أخري، وأنساق الدول لا تقرر بإرادتها الحرة إخفاء الأمر برمته عن الشعب – صاحب المصلحة الأصيل فى الأرض – بحجة أنه كان سيثير ضجة على أى حال، وأنساق الدول لا تقطع الحوار المجتمعى من طرف واحد بحجة أنه يؤذى الأمن القومي، فالمتحدثون هم أصحاب الأمن والقومية معا.
صحيح أن الوثائق التاريخية- وأهمها اتفاق العام 1990 بشأن ترسيم الحدود- تشير إلى واقع ينزع الجزيرتين من السيادة المصرية، لكن مبرر «نسق الدولة» ليس إجابة على المعضلة، وإنما هو سؤال يجب أن يدخل فى إطار الجدل نفسه، على الأقل كى نتشرف بالتعرف على المقصود بهذا المصطلح أصلا.
لأن ما يحلم به المصريون منذ انهيار دولة مبارك هو أن يشعروا أن لدولتهم نسقا، وأن يروا دليلا على أن هذا الهيكل يتحرك بصفة الدولة لا بصفة الخيرية والجدعنة والبركة التى تتحرك بها الدولة حاليا.
إشهار «نسق الدولة» يا سيادة الرئيس لا يخدم موقف الدولة الحالي، بل يحملها مسئولية الظهور بمظهر الدولة التى تعلن مواقفها بلا خوف ما دامت تفعل الصواب الذى يفرضه هذا النسق، كما يحملها مسئولية الإعلان عن مصالحها بما يفهمه الشعب صاحب المصلحة الأصيل.
إشهار سلاح «نسق الدولة» لن يعفى الدولة من التعامل مع أنساق الأفراد الذين اجتمعوا هذه المرة على رفض ما قامت به الدولة ولو كان للسعودية حق مطلق غير متنازع عليه فى الأرض لأسباب سياسية أو قومية أو غيرها، فأنساق الأفراد جزء من المعادلة لا يمكن استبعاده بحجة أن الدولة تحتاج إلى خلوة خالصة بالمصلحة الوطنية، وبحجة أنها تضج من تدخل الشعب فى مصالحه الوطنية.

Link