لن أدعى أننى من أشد المعجبين بفكرة أكشاك الفتوى التى بدأت لجنة الفتوى التابعة لمجمع البحوث الإسلامية فى نشرها فى محطات مترو الأنفاق، فهى محاولة لها سلبياتها ولها إيجابياتها، وقد يرى القائمون عليها ما لا أراه، وربما كانت بالفعل الحل الناجع لمواجهة الأفكار المتشددة وإحلال صحيح الدين محل النسخة المشوهة التى ينشرها الإخوان بين الناس.

ولن أتكلم عما أعتقد أنها أخطاء فى فكرة الأكشاك فى حد ذاتها، فقد قررت أن أترك الفرصة للتجربة العملية، فربما أثبتت خطأ ما أظن.

لكن ذلك لن يمنع أن ألفت النظر إلى خطوتين رئيسيتين كان من الواجب اتخاذهما قبل نشر رجال الدعوة فى الشوارع، ووضع الفتاوى بين أيدى الناس فى الفواصل بين قطارات المترو، وهما تتعلقان بالصورة الذهنية لمؤسسة الأزهر، وبالفكر الدينى لهذه المؤسسة العريقة.

أما فيما يتعلق بالصورة الذهنية للأزهر، فقد كان الأزهر وماسبيرو أول مؤسستين تخسران المواجهة فى عملية تفكيك مؤسسات الدولة المصرية، وليتذكر معى من شهد تلك الحملة التى بدأت فى التسعينيات عندما كانت أشرطة شيوخ الفتنة ومنابرهم تصدح ليل نهار بالتشكيك فى مصداقية إعلام الدولة، وتطعن فى ولاء شيخ الأزهر للدين على حساب ولائه للدولة، وكان هذا الخطاب يهدف إلى ترسيخ أمرين واضحين، الأول هو أن كل ما يأتينا من إعلام الدولة كاذب، وأن كل ما يصدر من خطاب دينى عن الأزهر هو خطاب مأجور بالتقرب من الحاكم.

وقد نجحت هذه الحملة نجاحا ساحقا، وكانت ضربة تمهيدية فعالة أزاحت شبكة الإذاعة والتليفزيون الأقدم والأقوى فى الشرق الأوسط من المنافسة تماما، وفتحت المجال سهلا زلالا للقنوات الأجنبية والخاصة، وهذا هو الفراغ الذى تمددت فيه قناة الجزيرة وحققت فيه شعبيتها ومصداقيتها.

وكانت أكثر فاعلية فى إزاحة الأزهر عن الخريطة الشعبية، وعزله عن الناس وعزل الناس عنه، خاصة أنها حملة تشويهية جاءت بعد عقود من اضمحلال المؤسسة ذاتها، وبعد محاولات ضارية فى اختراقها، إضافة إلى تشوهاتها التاريخية المتجذرة.

ولك أن تتخذ من السخرية التى تعرضت لها أكشاك الفتوى على مدار اليومين الماضيين دليلا واضحا على حالة التربص بالأزهر، وعلى مقدار الخوف من قدراته، وفى الوقت نفسه، على مقدار ضعف صورته وهيبته ومصداقيته بين الناس.

وكان من الواجب على الأزهر أن يسعى إلى خبراء فى بناء الصورة الذهنية ليستشيرهم فى استراتيجيات هدم الصورة الذهنية الفاسدة التى تراكمت عن المؤسسة، وفى كيفية بناء صورة ذهنية لائقة لها قبل إطلاق رجال العلم والفتوى إلى الشوارع ليكونوا صيدا سهلا لانتقادات الإخوان وغيرهم من جماعات الإسلام المسيس، وفريسة مؤكدة لجمهور لا يعرف للأزهر فضلا ولا يقر له جلالا.

أما بالنسبة للفكر الديني، فيجب أن أقر أولا أننى أرى أننا نحتاج إلى تجديد صريح فى الفكر الديني، ونحتاج إلى إنعاش للفقه، وإلى مراجعة مفتوحة للفلسفة العقيدية، لا إلى مجرد تجديد فى الخطاب الديني.

وعليه فإننى أرى أن هذه الثورة الفكرية كان يجب أن تحدث داخل مؤسسة الأزهر، وتحت رعايتها وصيانتها، قبل أن ترسل فرق الإفتاء إلى محطات المترو، لأنها ببساطة لم تبدأ أولا بتطهير مربع آمن للإسلام الوسطي، لا داخل قاعد الفكر الأزهرى الذى شابته اختراقات رهيبة، ولا داخل قاعدة الطاقة البشرية لرجال الدعوة الذين يؤمن كثير منهم بالفعل بأفكار متشددة، سواء من ناحية أصول فقهية درسوها فى الأزهر نفسه، أو من ناحية تلوث بعضهم بالصلة المباشرة وغير المباشرة بالإخوان والتيارات الوهابية الظلامية.

كان من الواجب أن يسعى الأزهر أولا لحل هاتين المعضلتين وبسرعة قبل أن يتورط فى مواجهة خاسرة فى أرض أصبحت بعيدة كل البعد عنه، وصارت غريبة على جذوره التى يحاول مدها فيها.

وأخيرا، فهذه دعوة فى حب الأزهر، وهى نابعة من إيمانى العميق بما تملكه هذه المؤسسة العظيمة من إمكانية تحتاجها العقيدة السليمة، والفقه القويم، والفهم الصحيح، اليوم أكثر من أى يوم مضى.

وهى دعوة أيضا فى حب الوطن الذى يحتاج إلى أزهر قوى ليكون سنامه وعمود خيمته وسط هذه الحرب الشرسة التى بدأت فى ساحة الدين، ولن تنتهى إلا فى ساحته.

Link