حرية الصحافة مفهوم واسع مطاط يشير فى النهاية إلى حرية الصحفى فى جمع المعلومة ونشرها، وحريته فى إبداء الرأى ونشره، أى أنه فى النهاية يتعلق بالصحفى نفسه، وهنا يكمن أحد أوجه اللبس فى هذه المسألة الحساسة وهو: هل ندافع عن حرية الصحافة أم عن حرية الصحفيين؟

وأتصور أن الجماعة الصحفية فى هذه الناحية قد اتبعت نهجا للخلط بين «الصحفى» و«الصحافة»، ومن ثم للخلط بين حرية الصحافة وحرية الصحفى، يشبه نهج لويس الرابع عشر الذى قال «أنا فرنسا وفرنسا أنا» عامدا الخلط بين مفهوم الحاكم ومفهوم الدولة، حتى يصبح أى عدوان على لويس عدوانا على فرنسا.
وبالطبع يحتاج الصحفى إلى قدر من الحماية والحرية حتى تتحقق الصيانة لحرية الرأى وحرية الصحافة، لكن هذا القدر من الحماية تحول إلى مطمع للكثير من المنتحلين الذين يعجبهم بالطبع أن يتمتعوا بحقوق أكثر، ولا يعجبهم أن يقدموا صحافة حقيقية فى مقابل هذه الحقوق الإضافية.
وأعرف أن تقديم المسئولية على الحرية أمر لا يلقى قبولا عن جمهور الصحفيين، ويستمطر ما هو أكثر من عدم القبول من جمهور المدافعين عن الحرية بقيمتها المطلقة، لكننى مع ذلك لا أمل من التأكيد على أن الفيصل فى صناعة حرية الصحافة يكمن فى مستوى من الجودة للمنتج الصحفى يكفل لهذا المنتج جمهورا يحميه.
ومن هذه الثقة الجماهيرية تفرض القوانين الحامية لحريات الرأى والنشر، وتفرض القوة الاقتصادية لصناعة الصحافة التى تقدر على تمويل نفسها من خلال منتج صحفى قادر على المنافسة.
وهذه الجودة يجب أن تكون تصريح الصحفى للحرية، ومسوغة المشروع الذى يبرر حصوله على مزيد من الحقوق والحريات، بمعنى أن الحد الأدنى من الجودة هو الذى يثبت أن شخصا ما صحفى وأنه يسرى عليه ما يسرى على الصحفيين، وأنه دون هذا الحد الأدنى يصبح المجتمع مفرطا فى حصة أكبر من الحرية لصالح شخص لا يستحقها إذا ما فكرنا فى الحرية وفى الصحافة على أنهما وظائف اجتماعية لا مجرد حقوق.
الطبيب مثلا من حقوقه ومن حرياته الأساسية أن يطلع على عورات الناس، بشرط أن يكون طبيبا حقيقيا، فلماذا لا يشترط فى الصحفى أن يكون صحفيا حقيقيا ما دام من حقوقه وحرياته الأساسية أن ينشر هذه العورات ويعلن عنها؟
ولماذا لا يكون من حق مهنة الصحافة، مثلها مثل مهنة الطب وغيرها، أن تستبعد الأدعياء والمتطفلين والمنتحلين، ومن قبلهم غير المؤهلين، من دائرة الاستفادة بالحقوق الأصلية والإضافية للعاملين بهذه المهنة؟
لقد أصبحت حالة المهنة مزرية إلى درجة أنك قد تقرأ فى خبر واحد عدة أخطاء إملائية وعدة أخطاء نحوية وعدة أخطاء فى الوقائع وجريمة أو جريمتين على الأقل فى حق مواطن أو جنس أو عرق أو طائفة، وربما جريمة فى حق الوطن كله!
ولا أظن أن هذا المستوى من الجودة الصحفية ـــ سواء كانت جودة فنية أو أخلاقية مهنية ـــ يمكن أن يجبر المجتمع، أو حتى يقنعه، بأن يتخلى عن خصوصية عوراته وفائض حرياته ومصالحه.
هذا باب من الإصلاح الذاتى يجب أن تضعه الجماعة الصحفية نصب أعينها وهى تخوض نضالها من أجل تحقيق حرية الصحافة والصحفيين كاملة، ودون أن تتخلى عن مطالبها التقليدية من الدعوة إلى الإفراج عن كل صحفى سُجن بسبب ممارسته للصحافة، إلى المطالبة بقوانين واضحة وعادلة تحمى الحق فى تداول المعلومات، إلى المطالبة بمنظومة قانونية وأخلاقية وتربوية كاملة تعتبر الحق فى إبداء الرأى ونشره من الحقوق الأصيلة والمقدسة.
ولعل اليوم يأتى لنحتفل فى يوم ما من عام ما باليوم العالمى لحرية الصحافة ونحن جماعة صحفية حقيقية مؤهلة للقيام بعملها بجودة تستحق أن يحميها المجتمع، ووسط مستوى من الحرية يليق بدورها الصانع للعقل والوجدان بطريقة تخلو على الأقل من الأخطاء الإملائية، ومن الجرائم الأخلاقية والمهنية.

Link