وكأنها نغمة موحدة هذه الأيام، الجميع يتحدثون عن إصلاح الخطاب الدينى، وكأن إصلاح الخطاب الدينى سلعة بسيطة سنشتريها من السوبرماركت، أو كأن إصلاح «الخطاب» وحده سيحل مشاكل المسلمين التى يعانونها بينهم ومع الآخر!
وكلما سمعت عبارة «إصلاح الخطاب الدينى» أدرك أكثر وأكثر أن تشخيصنا لمشكلتنا الحقيقية ليس فى صلاحية المنظومة الدينية لحياتنا كمسلمين، أو فى صلاحية فهمنا لها أن تكون المكون الأساسى لحياتنا إذا رغبنا فى ذلك، وإنما نظن أن المشكلة هى فى صورتنا أمام العالم فقط.
نحن نشبه رجلا فتقت وجهه بثرات الجدرى فهرع إلى تغطيته بالمساحيق بدلا من أن يسرع بعلاج الجدرى نفسه، لأن أولويته هى أن يراه الناس جميلا، لا أن يكون سليما معافى وجميلا حقا.
وحتى لو وضعنا إصلاح صورة المسلمين أمام العالم على رأس أولوياتنا، فإصلاح الخطاب لن يكفى ما دامت المنظومة بصورتها الحالية مؤهلة لإنتاج الكراهية التى ستطفح بالتأكيد على سطح أى محاولة تجميل ظاهرية لتزيد صورتنا أمام العالم قبحا على قبحها.
الأمر يحتاج إلى شجاعة أكثر لنعترف أن أزمتنا أعمق من مجرد صورة وخطاب، وأن مسألة الإصلاح ستتجاوز تعديل لغة الإعلان عن الذات إلى مراجعة فلسفية وفقهية ستكون بالتأكيد الأكبر منذ نشأة هذا الدين.. علينا أن نعترف أننا بحاجة إلى إصلاح دينى حقيقى لا إلى إصلاح الخطاب الدينى وحده.
وعلينا أن نعترف أن سلم أولوياتنا يبدأ بالمعيشة الطبيعية التى نريدها ويريدها كل إنسان طبيعى على ظهر الأرض دون رعب مشروع الدولة الإسلامية التى تقطع الرءوس للترفيه عن المرضى النفسيين الذين يقودونها، ويمر بالتعايش السلمى والطبيعى أيضا مع الشعوب والحضارات والثقافات والأفراد المختلفين، ثم ينتهى بمدى قبول الآخر لصورتنا كمسلمين.. هذا هو الترتيب المنطقى وليس العكس.
هناك حساسيات عديدة من الحديث عن الأزمة عند هذا العمق، لكن خداع النفس بأن معتنقى العنف أقلية خارجة على الدين، أو فئة لا تمت للدين بصلة، أو البعض ممن يشوهون صورة الدين السمح، كل ذلك لن يؤدى إلا إلى المزيد من الوقت الضائع إلى أن تصل الفتنة إلى صلب الدين نفسه.
ربما يفاجأ بعض الطيبين من حسنى النية بأن كل أعمال العنف التى نتجت عن جماعات الإسلام السياسى منذ الفتنة الكبرى فى صدر الإسلام وحتى الفتنة التى نعيشها اليوم كان لها دائما سند شرعى.. ليس هناك تفجير أو ذبح أو تقطيع أوصال أو غزو أو سبى لا تغطيه فتوى تستند استنادا معقولا إلى نص لا شك فيه.. وهذا بالتحديد هو ما وضع الأزهر فى حرج من تكفير داعش، فالأزهر يعرف أكثر من غيره عمق هذا المأزق.
ولا يقتصر الأمر على العنف وحده، وإن كنا كأمة نعتبره الأولى بالعلاج، لكنه يمتد إلى كل مناحى الحياة.. هناك دائما مظهر للتأخر وللتخلف، وهناك دائما سند شرعى لهذا المظهر، فما العمل؟ وما الذى سينفعه إصلاح الخطاب وحده والحال على ما هى عليه من خطر على الدين نفسه؟ كيف سيكون حال المطالبين الآن بإصلاح الخطاب بعد عشر سنين عندما تتضاعف أعداد النافرين من الملة مائة مرة، أو عندما تتضاعف أعداد المشككين والمتشككين ألف مرة؟
لقد تجاوز الجهد المطلوب قدرة المؤسسة الدينية، لأن الأزمة تجاوزت مجرد التعديل الفقهى وأصبحت أزمة فكرية وفلسفية واستراتيجية تهدد الأمة الإسلامية وتهدد معتقدها الدينى فى صلبه وتحقيقه.
وإذا لم تتحقق الشجاعة المطلوبة للاعتراف بالكارثة وللتجرؤ على حلها من حيث يجب علاجها، فسيأتى وقت ليس بالبعيد تكون فيه الفرق الإسلامية بعدد أفراد الأمة ليكون لكل رجل إسلامه الذى يعتنقه ويكفر من يخرج عليه، وستقف المؤسسات الدينية الرسمية وإسلامها الوسطى حينها موقف الخذلان للدين «الحق» الذى سيكون حكرا على المتعصبين، وهو ما بدأت إرهاصاته منذ سبعينيات القرن الماضى، وطال الكثير منها مصداقية الأزهر وثقله فى قلوب الناس ورباطه الأمين على عقيدتهم.
وغنى عن الذكر أن صورتنا حينها ستكون مأساوية، وتكون سيرتنا كسيرة الأوبئة القاتلة.. لأننا آمنا اليوم بخرافة إصلاح الخطاب الدينى وحده.