كنت فى الثانية عشرة من عمرى عندما قرأت إعلانًا نشر على أحد جدران مركز الشباب الذى كنت أتردد عليه أيامها عنوانه «دورة إعداد القادة»، وغلبنى شىء ما ساحر فى العنوان دفعنى إلى أن أدخل المكتب المسئول حسب إشارة الإعلان لأتقدم للاشتراك فى الدورة.

وتسلم الموظف المسئول بياناتى – فى هذه المرحلة العمرية لم يكن السى فى الخاص بى يحتوى شيئا سوى اسمى وعنوانى وسنى – وسلمنى إيصالا من تلك الإيصالات الصفراء الباهتة يفيد أننى سددت قيمة الاشتراك فى الدورة وهو جنيه واحد.
ولم يكن الجنيه مبلغا هينا بالنسبة لى فى هذه الأيام التى دارت عليها ثلاثة قرون على الأقل، فقد كان تضحية توازى عشرة أكواب من عصير القصب أو أربع زجاجات من الحاجة الساقعة أو ما يوازيها من الملذات، فى مقابل حصولى على المعرفة العلمية اللازمة للقيادة.. مقابل تسلمى هذه المهارة النادرة كابرا عن كابر لأصقل بها مواهبى القيادية الكامنة فى سبيل مستقبل مبهر لى وللوطن.. أو هكذا ظننت.
وجاء يوم التقى الجمعان، جمع المدربين وجمع المتدربين، وجلس فى صف المدربين ثلاثة أشخاص أحدهم هو العميد فلان الفلانى الذى يبدو من طريقة كلامه أنه كان ضابطا متقاعدا، وثانيهم رجل لم يبد من طريقة كلامه أى شيء سوى أنه «راجل بركة» استعانت به إدارة الدورة لأن شعره أبيض ما فيه الكفاية، ولأن كرشه العظيم ولغده الواضح يؤكدان على خبرته القيادية فى مجال ما، وثالثهما الشيطان فى هيئة مدام أم أحمد (ولاحظ حرصها على أن تنطق الهمزة فى اسم ابنها بوضوح لا على قراءة ورش المصرية التى تحول أم أحمد إلى أما حمد) وهى مسئولة رعاية الشباب فى المركز.
بينما كان صف المتدربين من موظفى ومنتسبى مركز الشباب الذين تجاوزوا الأربعين، والذين يبدو أنهم يشاركون فى هذه الدورة بالتزام وظيفى لأننى لم أر الاهتمام على وجه أى منهم.
المهم أن سيادة العميد فلان الفلانى استهل المحاضرة بكلام عن قيادة الأحداث المهمة، وأذكر أن نصيحته الواضحة كانت الاستعانة بالمسئول الحكومى فى المنطقة دائما لرعاية الأحداث المهمة، أو لدقة النقل نصا أنقل عنه أنه قال: «شوف مين الكبير فى المنطقة دى ولبسهاله.. رجل أعمال.. محافظ.. عمدة.. أى حد.. هتلاقى الأبواب اتفتحتلك.. وما تتعبش نفسك علشان مفيش غير كدة».
ثم سكت سيادة العميد فجأة قبل أن ينهى عبارة كان قد بدأها، ونظر إلى مباشرة ثم بادرنى بالسؤال:
– أنت بتعمل ايه هنا يا ابني؟
– أنا دافع جنيه!
– يا ابنى مش ده السؤال.. أنت نفسك بتعمل إيه هنا؟
– الوصل أهه والله!
– استغفرك ربى وأتوب إليك!! مين يا ابنى اللى سابك أصلا تشترك فى الدورة دي؟
– أنا دافع جنيه بقولك!!
– طب روح للأستاذ منير رجعله الوصل وخد الجنيه بتاعك وقوله إنك لسة صغير ومش هتنفع فى الدورة!
هذه القصة تختصر بما لا يخل بالمعنى مفهومنا عن «القيادة»، وتفسر بعدة حجج أسباب خيبتنا الثقيلة فى «قادتنا».
فأولا: لا تصلح القيادة العسكرية دائما بما فيها من إصدار الأوامر وتلقى الأوامر وانعدام فكرة المناقشة وواقع الاختلاف فى دائرة القيادة العامة لأمور وأنشطة لا يحركها إلا الإبداع ولا تنمو دون تعدد وجدل.
وثانيا: أن مضمون القيادة الذى تحدث عنه العميد فلان فى روايتى التاريخية كان مشوها وجانحا كثيرا إلى التعريف الكلاسيكى للفهلوة والهمبكة، لا إلى قاعدة علمية ما ولا حتى إلى نظرية مستجدة مبتكرة فى القيادة.
وثالثا: أن سيادة العميد ومدام أم أحمد والأستاذ أبو لغد كانوا يؤمنون تماما بأن القيادة مادة يجب أن تحفظ بعيدًا عن متناول الأطفال من أمثالي.. لأن القائد يجب أن يكون كبيرًا.. ليس فى القيمة ولا فى المعرفة ولا الموهبة.. وإنما فى السن.
ورابعا: أن الأستاذ منير رفض إعادة الجنيه الذى دفعته فى نفس الوقت الذى رفض العميد فلان السماح لى باستهلاك رصيدى من هذا الجنيه على فهلوته القيادية، وبالتالى فقد كانت خسارتى مضاعفة.. وهى عندى أفدح من خسارة الوطن فى مسألة القيادة ككل… أنا عايز الجنيه بتاعى!!

Link