فى عام 1871 اكتشف أحد لصوص المقابر الفرعونية من أفراد عائلة عبدالرسول المتخصصين فى سرقة الآثار مقبرة فى الجانب الغربى المقابل للأقصر بها ما يزيد على خمسين مومياء يحمل بعضها علامات ملكية، مما يدل على أهميتها التاريخية العظيمة.
وتكتمت عائلة عبدالرسول على الاكتشاف الثمين وبدأ لصوصها المحترفون فى بيع محتويات المقبرة التى عرفت لاحقا بالمقبرة 320 لهواة جمع الآثار والتحف فى باريس، إلى أن اختلف اللصوص على المسروق وقرر محمد عبد الرسول، أقدم لصوص الأسرة حينها، إبلاغ السلطات التى داهمت منزل الأسرة وتسلمت ما تبقى من محتويات المقبرة.
وقامت مصلحة الآثار تحت إشراف عالم المصريات الألمانى إيميل بروجش بنقل محتويات المقبرة المتبقية على الفور إلى القاهرة فى رحلة جنائزية مهيبة.
وأنتجت السينما المصرية فيلمها الأبرز والأكثر شهرة عالميا عن هذه القصة بعنوان «المومياء» الذى أخرجه الراحل شادى عبدالسلام عن الخبيئة التاريخية التى عرفت فى أدبيات علم المصريات باسم «خبيئة الدير البحرى».
إذا فهى مقبرة لها قيمة تاريخية لا تقدر بثمن، وبها مومياوات أخفاها كهنة فى عصور متقدمة حفاظا على هذه القيمة التاريخية من لصوص الآثار، ومن بين هذه المومياوات على سبيل المثال لا الحصر مومياء أحمس الأول محرر مصر من الهكسوس، ووالده الفرعون سكنن رع تاعا والفراعنة تحتمس الأول والثانى وتحتمس الثالث أعظم الفراعنة المحاربين الفاتحين فى تاريخ مصر، وأمنحتب الأول ورمسيس الأول ورمسيس الثانى أشهر فراعنة مصر والفرعون العظيم سيتى الأول، بالإضافة إلى عشرات من الأمراء والكهنة والزوجات الملكيات والأميرات!
وربما نتصور أن نهب جزء من هذه الخبيئة كان أسوأ ما حدث فى هذه القصة الأسطورية، لكن الحقيقة أن الجزء المؤلم حقا وقع عندما وصلت هذه المومياوات إلى ميناء روض الفرج الذى كان الميناء الرئيسى للعاصمة حيث استقبلها موظف الجمارك بدفتر التعريفة الجمركية الذى لا يحتوى فى جداوله سلعة باسم «مومياء»!
وأصر الموظف على «جمركة» المومياوات التى لم يفكر فى أهميتها التاريخية، ولم يفكر فى قيمتها الإنسانية ولا أى شىء سوى لائحة الجمرك التى لا تعترف إلا بالتعريفة المكتوبة، بينما لا تعترف التعريفة المكتوبة بهذا الصنف!
وتفتق ذهن الموظف المجتهد عن حل لا يمكن أن يأتى به إلا الموظف المصرى الذى خلد أسطورته الذاتية فى شبكة معقدة ولا نهائية من الإجراءات والأوراق والأضابير والرسوم والأختام والإيصالات والسركيات واللوائح التى يجب أن يخضع لها التخين فى البلد دى حتى لو كان رمسيس الثانى.
أمسك الموظف دفتره ثم سجل فيه أن الشحنة القادمة من الأقصر ستخرج من الجمرك بعد دفع الرسوم المقررة عليها بوصفها «أسماك مجففة»!
لقد طرد أحمس الهكسوس وطاردهم حتى الشلالات وشردهم فى الأرض، واحتل تحتمس الثالث العالم المعروف حينها حتى لم تجد جيوشه أرضا تحتلها من بغداد شرقا إلى بنغازى غربا، ومن البحر المتوسط شمالا إلى ما بعد الخرطوم جنوبا، وكان الفراعنة الرعامسة ملوكا تهتز من تحت أقدامهم الأرض وتجرى من تحتهم الأنهار ويكفيهم ما تركه رمسيس الثانى وحده من آثار!
كان نصف هذه الشحنة من المومياوات يجرؤ أن يقف أمام شعب مصر فى زمانه قائلا «أنا ربكم الأعلى»، لكنه لم يملك أمام جبروت الموظف المصرى إلا أن يقبل بلقب «فسيخة» أو «رنجاية» على أفضل تقدير.
مخطئ من يتصور أن هذا الموظف كان حالة فردية.. مخطئ أكثر من تصور أنه نشأ من العدم بغير منظومة تضمن وجوده ونجاحه داخلها، ومخطئ أكثر وأكثر من يظن أن هذه المنظومة لن تواصل إفرازها لهذا النوع من الموظفين ما دامت محتفظة بعنفوانها البيروقراطى المتأصل منذ عهد الفراعنة سالفى الذكر.
هذه القصة مهداة لمن يفكرون فى إصلاح أداء الموظف المصرى دون أن يشغلوا بالهم بإصلاح الجهاز الإدارى نفسه عقيدة واستراتيجية ومذهبا وعملا، ودون أن يخرجوا هذا الموظف البائس من المنظومة التى نجحت على مدار آلاف السنين فى تعطيل ما يفترض منها أن تسيره وتيسره.