قبل ثلاثين عاما، وفى أيام تشبه هذه الأيام من العام، كنت وقعت فى الأسر فى بيت جدتى العتيق فى إحدى الإجازات الصيفية.. هذا النوع من الاحتجاز القسرى الذى يتعرض له التلميذ الذى خابت نتائجه الدراسية، بينما يرتع أقرانه من الناجحين فى المصيف.
وخلال هذا الصيف، الذى لم يختلف فى طبيعته عن معتقلات جوانتانامو فإننى لم أكن أرتدى الملابس البرتقالية، كنت مجبرا على إعادة المذاكرة اللازمة لإعادة السنة فى غرفة ضيقة فوق السطوح الكبير كانت مخصصة لتخزين ثروة جدى من الكتب والجرائد والمجلات التى كانت جدتى تعتبرها مضيعة للوقت والمال.
وكان بين هذا العتاد الإخبارى كرتونة ضخمة تراصت فيها أعداد مجلة ملونة الغلاف تضم كتابات مسلية ورسوما كاريكاتورية رائعة وصورا رسمها رسامون بالألوان.. كانت الكرتونة بالكامل مخصصة لهذه المجلة التى كان كل شىء فيها رائعا وممتعا باستثناء شىء واحد.. اسمها المكتوب بالأحرف المضلعة المائلة الذى لم أستطع قراءته فى البداية، ثم عندما أفلحت فى قراءته لم أفهم معناه!
قضت هذه المجلة الساحرة على نكد الإجازات الصيفية التعسة، وأنجتنى لساعات وساعات من تعسف جدتى التى كانت تتصور لسبب لا أعرفه أننى أنا عقابها لا العكس، فكانت تجبرنى على أن ألزم غرفة الاحتجاز طوال الوقت.
لم أفهم معنى كلمة «روزاليوسف» إلا بعد عشر سنوات على الأقل من اكتشافى للكرتونة السحرية، عندما حكى لى أبى مصححا اسم المجلة بعد أن سمعنى أنطقه «روزوليوسوف».. وروى الكثير عن هذه المرأة التى أسست صحافتها الخاصة.. وعن إحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين وصلاح جاهين وعشرات الأسماء غيرهم ممن أسسوا هذه المجلة التى قرأت منها مئات الأعداد دون أن ينطفئ سحر الاسم والمحتوى، والتى أنشأت حلمى المهنى الأول: سأصبح رساما للكاريكاتير زى الرسامين بتوع «روزوليوسوف»!
وبالفعل، تخرجت فى الجامعة وكانت أول مهنة احترفتها هى رسم الكاريكاتير فى صحف ومجلات عديدة – ليس من بينها روزاليوسف طبعا – حتى تلقفتنى هيئة الإذاعة البريطانية مراسلا ومذيعا لسبع سنوات، ومن بعدها وكالة رويترز للأنباء لست سنوات، وما بينهما نشرت لى رواية وثلاثة كتب أفلحت فى تصنيفى خطأ بالكاتب الساخر.
وخلال هذه السنوات كنت أمر على مقر «روزاليوسف» فى شارع قصر العينى وعلى واجهتها كتب الاسم الذى حيرنى لسنوات بنفس الحروف المضلعة. وفى كل مرة كنت أرى الاسم على واجهة البناية العتيقة أو على غلاف المجلة كنت أمارس عاهتى اللغوية المزمنة بنطق الاسم العريق حسبما اتفق.. «روزوليوسوف.. روزيليوسف».. ثم أطرق أسفا أننى انجرفت وراء شيطان الصحافة التقليدية وتركت حلمى بأن أكون «رساما للكاريكاتير زى الرسامين بتوع روزاليوسف».
إلى أن جاء ذلك اليوم من الأسبوع الماضى عندما دعوت نفسى للكتابة فى المجلة التى ألقت فى روحى البذرة الأولى للقراءة والتطلع فى تلك الإجازة الصيفية الاستثنائية، وجاءت الاستجابة كريمة سريعة من إدارة التحرير فى «روزاليوسف» بالموافقة، وحينها تملكتنى نشوة رائعة، وابتسم ذلك الطفل الصغير المحتجز فى جوانتانامو السطوح الريفى قائلا: سأدخل الكرتونة السحرية كاتبا هذه المرة لا مجرد قارئ! ومن يدرى.. فلعل طفلا جديدا من عائلتى يقع بنفس الطريقة فى أسر هذه الكرتونة بفعل ما سأضيفه لها من كتابات!
سأدخل فى ذيل سلسلة ذهبية من الكتاب الذين نحتوا بين صفحات هذه المجلة أركان مدرسة فريدة فى الصحافة والكتابة والفن، ورغم أنه سيكون جوارا جغرافيا لا يفرض بالضرورة التجاور فى القامات والقيم، فهو يكفينى عملا بالقاعدة الشرعية التى تقول: إن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
وعلى طريقة معلقى الكرة لا أذكر أسماء أحد من هؤلاء الكتاب بحجة أننى لا أريد أن أنسى أحدا، إلا أننى فى الحقيقة إن فعلت فلن أنسى أحدا، فبعض الكتابات تنقش فى العقل، وبعض الكتابات ترسخ فى الوجدان.
فليرقد الآن حلمى القديم بأن أصبح رساما للكاريكاتير كرسامى «روزاليوسف» فى سلام، فقد نبت على رفاته حلم جديد بأن أصبح كاتبا «زى الكتاب بتوع روزاليوسف».

Link