اصطلحت الإنسانية خلال السنوات العشرين الماضية، على أن الإرهاب آفة يستحيل اقتلاعها، وأنها تظل دائما كالوباء الكامن فى الجسد ينشط حينا فكأن الجسد كله داء، ويخفت حينا فكأن الجسد تعافى، لكنه يظل علة مزمنة مرشحة للعودة بذات القوة فى أى لحظة.
وإذا كان الاصطلاح على أن الإرهاب دائم قد تم بعد مناقشات ودراسات طويلة ومعقدة، فإن أحدا من الجانبين ــ الإرهابيين والمهددين بالإرهاب ــ لم يعترف أو يعلن أن الإرهاب بطبيعته لا يمكن أن ينتصر فى النهاية ليحقق أيا من أهدافه التى يدعى أنها دوافعه للعنف.
الإرهاب خيار أخير لفئة أو أفراد لا يملكون خيارات حقيقية.. لا يملكون القوة السياسية أو الفكرية ولا يملكون إرادة فعلية لبناء شىء ما، وهو خيار سهل لأنه بالتأكيد أقل صعوبة من البناء ومن التفكير ومن الدأب على إقامة الأهداف المعلنة بوسائلها التقليدية المشروعة.. وهذا دليل على أن الإرهاب مسلك للضعفاء الذين يريدون أن يقنعوا غيرهم بأنهم أقوى من حقيقتهم، وأقدر من واقعهم.
ويعرف أى إرهابى فى العالم أنه ليس ثوريا، حتى لو ادعى ذلك وأحسن انتحاله، وحتى لو كانت هناك عوامل عديدة مشتركة بين الإرهاب والعمل الثورى، ومن بينها استخدام العنف أو العمل السرى أحيانا، فهناك خيط واضح يفصل بين الإرهاب والعمل الثورى وهو أن الإرهابى يستخدم العنف كخيار أخير، وهو يقف وظهره إلى الجدار وعمله الإرهابى انتحار أو بديل له، أما الثورى فلديه أمل حقيقى منطقى يراه بعين المستقبل، فما أمل الإرهاب على أرض واقعنا حتى نعتبره ثوريا كما يدعى؟؟
هل يطمع أحد أن تؤدى أعمال العنف الحالية إلى قلب الحكم وتغييره؟ ليس هذا من المنطق فى شىء، أم هل يطمع أحد أو يتصور أن تتحول مصر إلى ساحة عنف مفتوح وتفجير؟ هذا أمر غير مألوف حتى وإن وقع فى دول قريبة أو شقيقة، فواقع الحال هو أن هذه الدول تعانى الفرقة والطائفية والانشقاق والقبلية والعشائرية والتشرذم السياسى والدينى حتى قبل أن يضربها أى إرهاب، والكل يعرف أن لمصر طبيعة أكثر تجانسا بكثير من هذه النماذج.
فهل يطمع الإرهاب المسلح فى مصر فى أن يقدم دولة مستقلة على الأرض ويطمع أن يكون لهذه الدولة مستقبل يزيد على بعض ساعات؟ أى على سبيل المثال، هل كانت كتائب الإرهاب فى سيناء تتوقع أن تعلن استقلال مدينة الشيخ زويد تحت الراية السوداء ليستتب الحكم لها فيها لأكثر من ساعة من نهار؟ أم أنها كانت تعرف جيدا أنها تقوم بعمل أكبر من حجمها ليوحى بإنجاز غير حقيقى فى سلسلة أهداف غير منطقية لن يتحقق منها شىء؟
على عكس ما قد يتصور البعض، فالعمل الإرهابى كله انتحار، حتى لو لم يتضمن عملا انتحاريا بالمعنى المفهوم، فهو على الجانب السياسى لا يكسب أى أرض ولا يحقق أى شعبية ولا يضم من الموالين غير ثلة من الموتورين المتطرفين من أصحاب العاهات الفكرية، وعلى الجانب العسكرى لا ينشئ أى مواقف دائمة، وإنما هو بالكثير يضع نفسه هدفا فى مرمى قوة هى بالتأكيد أكبر منه وأشد بأسا وأكثر صبرا على تبعات الحرب، فإما أن تسحقه هذه القوة وإما أن يفر أمامها.
الإرهاب فى النهاية صناعة تدخلها مركبات كثيرة، بعضها اقتصادى وبعضها سياسى وبعضها اجتماعى ونفسى وسلوكى، وهى صناعة تنتج منتجا واحدا فقط هو الخوف، وهو منتج لا يصلح أساسا لأى مستقبل، فعلى هذا الخوف لن تقوم دولة، إلا مؤقتة لساعات أو أيام، ولن تبنى حضارة، ولن تنشأ فكرة أو تنبت نبتة.. الإرهاب مولود ميت لن يبرح مسقط رأسه، وطريق مسدود لن يقود إلا إلى جدار يتخذه الإرهابى فى ظهره ويتخذ معه قرار انتحاره الأخير.