الأزمة الحقيقية التى يعانى من تبعاتها نظام الرئيس عبدالفتاح السيسى هى أنه يفتقر إلى الظهير السياسى الذى يساند مشروعه، والذى يمثل فى الوقت نفسه صفة وتعريف التوجه الذى يدفع المنتمين إليه إلى دعمه وتعزيزه والدفاع عنه، أى التوصيف الفكرى والفلسفى لهذا الظهير.
ومنبع هذه الأزمة هو أن الرئيس لم يسم بعد توجهه السياسى، وبدا للناس أنه يعمل دون فكر سياسى، أو فى بعض الأحيان أنه يعتبر السياسة نفسها رفاهية لا محل لها ساعة حرب وساعة بناء كتلك الساعة التى تمر بها الأمة المصرية.

لكن الحقيقة أن الزخم الذى اندفع فى شرايين هذه الأزمة يوم الثلاثين من يونيو ليدعم القرار العسكرى بالإطاحة بحكم جماعة حلمت بأن تعيد تشكيل صفتها الاجتماعية والحضارية والثقافية، هو ذاته الزخم الذى يملك فى قلبه المسمى والمضمون السياسى الذى يتحرك على أساسه مشروع الرئيس السيسى، وهو عين الطاقة التى تجمع حوله أنصاره.
وما يجمع كل هذا معا هو شعور وطنى – لا سياسى، أو دعنا نقول إنه فوق السياسى – يحلم بأن يصبح هذا البلد الذى ضربته كل أنواء الزمان قوة عظمى، ولعل هذا هو ما يصوغه الرئيس بعبارته «أد الدنيا»، أو كما يرسلها بصياغة شفرية لا يفهمها إلا أنصاره «بكرة تشوفوا مصر دى هتبقى إيه».
والعجيب أن هذا التواصل الشفرى يصيب هدفه ويحقق مراده المعنوى والفكرى على الرغم من بساطة لفظه، أو ربما سذاجة لفظه إذا ما قيس بأدبيات الاتجاهات السياسية المنافسة، لا لأنه منحوت من خلاصة الحكمة، بل لأنه يصيب هوى العظمة فى العقل الجمعى المصرى الذى يذكر تاريخه عندما كانت الإمبراطورية المصرية تشغل كل مساحة العالم المعروف، الذى لم تلوثه خطط تحقير الذات والهدم المعنوى التى تحاول إحباط هذا الهوى بداخله.
هناك اتفاق ضمنى بين المصريين – كأغلبية لا كتعميم – على أن يدعموا ويساندوا الحاكم الذى يطرح عليهم حلما قوميا عظيما، لا توقفه الحدود ولا تعرقله توازنات القوى ولا تهزه التبعية الاقتصادية.. هكذا سار المصريون وراء تحتمس الثالث عندما كانت جيوشه تحتل الأرض من بغداد شمالا إلى الخرطوم جنوبا إلى بنغازى غربا، وهكذا سار المصريون وراء محمد على الذى دفع بمصر من دولة مستعمرة تابعة إلى دولة موازية ومنافسة للقوى التقليدية، وهكذا صدقوا عبدالناصر عندما كان يقول إنه سيلقى بمن هم خلف إسرائيل فى البحر.
وربما لا نرى بعيوننا ما يثبت جدوى وجدية مشروع الرئيس السيسى، لكن أنصاره يشاركونه نفس الرؤية التى لا ينقص مشروع الرئيس إلا أن يسميها صريحة بالمشروع القومى المصرى، وأن يستقطب أنصارها ويسمى أعداءها جهرا دون الإلماح إلى أهل شر غامضين، فقد سبق أن زحفت القوة القومية الضاربة بالملايين إلى الشوارع لتطيح بأهل الشر، فما جدوى الإلماح بعد التصريح؟
الحقيقة الأعمق هى أن الأغلبية القومية المتطرفة فى مصر لجأت إلى الجيش كى يحمى محددات قوميتها من التشويه المتوقع من جانب الإخوان وحلفائهم، واختاروا الرئيس السيسى الذى ينتمى للمؤسسة العسكرية كضمانة لهذه الحماية.
المسألة ليست ببساطة الثقة فى المؤسسة العسكرية كطرف فى صناعة القرار الوطنى، بل هى الرؤية القومية اليمينية للجيوش التى تعتبرها القوميات جزءا حيويا من المشروع القومى ذاته، وأداة من أدوات صناعة العظمة الأممية المطلوبة.
ومع أن المشاعر القومية المصرية لها هذا الأصل التاريخى البعيد، ولها هذا العمق الشعورى والفكرى المتجذر، فالتيار القومى المصرى لا يعرف لنفسه اسما، ولا يدرك هويته وتعريفه، لدرجة تصل أحيانا إلى الصراع المرير بين أجنحته التى لا يعرف بعضها بعضًا.
فشرفاء الغاضبين لتخلى مصر عن جزيرتى صنافير وتيران مثلا من القوميين المتعصبين الذين تعرف عقائدهم الوطنية السيادة بالقوة أكثر مما تعترف بالسيادة بالقانون والتصالح والاتفاق، وهم الآن فى مواجهة مع أنصار السيسى وكلهم من القوميين المتطرفين الذين يؤيدونه لأنه يمثل حلمهم القومى الذى يؤمن إيمانا خالصا بأن حدودهم السياسية هى نفسها حدود أمنهم القومى، وأنها تقف عند نهاية مرمى مدافعهم لا عند ما تشير إليه الخرائط والمعاهدات.
أظن أن الأوان قد آن كى يتعرف القوميون المصريون على هويتهم، وأن يبدأ الحوار حول توصيف هذه الهوية وبحث مصادرها ومعرفة ركائزها التاريخية والإنسانية، وحول وضع الأسس الفكرية والفلسفية لخطواتها المستقبلية.

Link