ألقى الرئيس عبدالفتاح السيسى خطابا مطولا قبل يومين لم تكن لمحتواه علاقة بمناسبة إلقائه، فقد التأم جمع غفير من رجالات الدولة وعشرات من الإعلاميين لحضور إعلان مصر عن استراتيجيتها للتنمية المستدامة «رؤية مصر 2030» وألقى بعض من الذين شاركوا فى وضع هذه الاستراتيجية كلمات اتفقت جميعا على أننا أمام استراتيجية غير مسبوقة ستضع مصر فى قائمة أفضل 30 دولة فى العالم من حيث النمو الاقتصادى بحلول العام 2030.

تكلم رئيس الوزراء ووزراؤه ومسئولوه عن الاستراتيجية، لكن أحدا منهم لم يفصل طبيعة هذه الاستراتيجية، وكان أكثر الكلام عنها لا فيها، وقاطع الرئيس السيسى المتحدثين غير مرة، وبدا أنه يحاول أن يثبت أنه ذلك النوع من القادة الذين يتدخلون فى تفاصيل كل أعمال تابعيهم.
الأكيد هو أن الرئيس السيسى ينتمى بالفعل إلى مدرسة مركزية فى القيادة، وهو لا يكتفى بالمراقبة والمتابعة واختيار الكوادر الملائمة ووضع الخطط والاستراتيجيات والإشراف عليها، وإنما يتدخل شخصياً وبشكل مباشر فى تفاصيل الخطط والتكلفة والفصال والمناهدة مع الشركات المنفذة لهذه المشاريع والخطط.
ثم اعتلى الرئيس المسرح ليؤكد ما بدا أن الخطاب كله قد سعى لتأكيده، فاللمرة الأولى يتحدث الرئيس بلغة الأرقام التى غابت عن خطاباته السابقة جميعاً، ويقوم بعمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة المطولة دون الاستعانة بورقة، ثم يقلب النظر فى الوزير المسئول عن الرقم والحساب، فيرتد نظر الوزير مؤكداً صحة حسابات الرئيس.
ويستخلص الرئيس فى النهاية ما جاء لاستخلاصه، وهو أنه يعرف كل شيء فى مصر وحده تماماً كما يعرف ظهر يده، ثم ينطلق للكلام عن معركة مصر من أجل البقاء، فيثبت قطعاً أنه يعرف تفاصيل هذه المعركة كما يعرف المرء راحة يده.
ثم يطلق الرئيس عبارة من المفترض أن تبث الثقة فى قلوب أنصاره فى شخصه، لكنها فى الوقت نفسه عبارة تبث الفزع فى قلب أى عاقل تجاه النظام الذى تدار به البلاد، والذى يرتكن على رجل واحد يعرف كل شيء ويؤكد نصاً أنه المرجع الوحيد لكل شيء، وأن من لا يعرف كما يعرف هو عليه أن يصمت.
ولا مجال للتشكيك فى صدق وإخلاص الرجل، فهو الرجل الذى أؤتمن عملياً على البلاد منذ الثلاثين من يونيو وربما من قبلها لكن فنون القيادة تستلزم أن تقتصر مهمة القائد على صنع هيكل القيادة واختيار الرجال الذين سيقومون بعمل التروس فى هذا الهيكل، على أن يشترط عقلاً أن يبقى هذا الهيكل عاملاً ولو سقط منه ترس، بل ولو سقط ترسه القائد لا قدر الله.
ويشير هذا الخطاب الخطير الذى اكتفى الجمهور إما بالتصفيق له بلا وعي، وإما بالسخرية منه بلا وعى أيضاً إلى أننا مازلنا فى حالة قيادة الأزمة، ورغم انتهاء المرحلة السياسية من «خارطة الطريق» لم نصل بعد إلى مرحلة ضبط الإدارة للعمل باستراتيجية واضحة للتنمية أو للتعامل مع القضايا الوطنية كلها خارج إطار شخص الرئيس الذى إما أن نثق فيه مطلقاً، وإما أن نثق مطلقاً أننا نتجه بسرعة الحجر إلى قاع الهاوية.
لا يترك لنا الرئيس السيسى حلولاً غير بناء ثقتنا وخططنا وأحلامنا للحاضر والمستقبل إلا على كتفيه أو أن نفقد الأمل تماماً كبديل، وعليه يكون أى كلام عن وضع استراتيجيات للعقد ونصف القادمة محض أمنيات لا يعول عليها كثيراً ما دمنا نعيش تحت قيادة الأزمة.
كان ما قاله الرئيس عن مخاوف الفقر المائى وعن أزمة سد النهضة مع إثيوبيا أكثر من مخيف، وبدا مما أشار إليه حول الاتفاق مع إثيوبيا على عدد سنوات محدد لملء الخزان وراء السد أننا فى طريقنا إلى الرضوخ الكامل إلى الخطة الإثيوبية بخصوص سد النهضة، وأننا خسرنا المعركة معهم دبلوماسياً وسياسياً.
وبدا من كلام الرئيس عن تمويل المشروعات العملاقة وعن توافر التمويل لها بلا حصر أو حدود رغم العجز الهائل فى الموازنة العامة الذى صرح به، ومن نفيه لوجود مساعدات من الخارج، أنه ينزح من بئر سرية لا نعرف عنها شيئاً، ويزداد جهلنا بهذا المورد جهلاً عندما يؤكد أن هذه الأموال تأتى «من مصر».
فنحن إذاً أمام خطوات مصيرية نسيرها على حبل دقيق لا يراه إلا الرئيس السيسي، ويتصادف أنه هو نفسه الذى يقود المسيرة على هذا الحبل.
ويبدو أن الرئيس الذى يحلو له أن يتكلم دائماً فى خطاباته الرسمية بمبتدأ لا خبر له، أو بخبر لا مبتدأ له، يعرف جيداً أنه يضعنا فى هذا المربع الذى لا اختيارات فيه غيره، ويبدو أنه ما زال يراهن على قاعدته الشعبية التى تآكل بعضها لكن لا يزال أكثرها صلباً، خاصة فى الطبقات الأدنى التى يفترض أن تتأثر أولاً بأى خلل فى إدارة البلاد، لكنها مع ذلك الطبقات التى تعمر مربع اللا اختيار غير السيسي.
ونحن مع هؤلاء نرفع أكف الضراعة إلى السماء سائلين الله ألا يردها بغير إجابة، طالبين ولا يكثر عليه أن يكون الرئيس السيسى محلاً لهذه الثقة الإجبارية، وأن يلهمه صواباً خيراً من الصواب الذى يتشكك فيه الملايين من العقلاء والخبراء والعارفين.
وحتى لو كنت من المعارضين للسيسي، وحتى لو رأيت السيسى بعينى قلبك شيطاناً، ولو رأيته بعينى رأسك يقتل أباك وأمك وولدك فى بطن أمه، فلا بديل أمامك إلاه، ولتجدن نفسك بين الداعين تدعو الله له بطول العمر والسلامة، ثم تمسح بيديك على عينيك وقلبك قائلاً آمين.

Link