فى نهاية خمسينيات القرن الماضى، كانت الحرب الباردة تعتمل نحو مواجهة نووية متوقعة فى أى لحظة بين المعسكرين الشرقى والغربى، وفى نفس الوقت كان العالم يظن أن النظام العالمى القائم له مبادئ قادرة على حماية سيادة الدول واستقلالها وفقا لأساطير القانون الدولى التى اقتنعت بها الدول الصغيرة على مراحل منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى سنوات ما بعد الحرب الثانية.
كانت الثورة الكوبية أول ظهور للتيار الثورى الشيوعى فى نصف الكرة الأرضية الغربى، وفهمت واشنطن من هذا الظهور أن جانبها من العالم لم يعد آمنا كما كان، وأن أمريكا اللاتينية التى اعتبرتها لعقود باحتها الخلفية أصبحت فى مرمى التوجهات القومية واليسارية الوافدة.
وتجرأت جواتيمالا التى تقع على الحدود الجنوبية للمكسيك، والتى تقع بدورها على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، على فتح مواجهة مع شركة أمريكية كانت تسيطر على حصة كبيرة من اقتصادها.
كانت شركة يونايتد فروت كومبانى – بوسطن تملك نصف مليون فدان من الأراضى الزراعية، وكانت تملك بجانب ذلك السكك الحديدية فى جواتيمالا والميناء الوحيد العامل لها على البحر، وتملك وسائل الاتصال الهاتفى وأشياء أخرى.
كانت الشركة الأمريكية تربح الملايين من زراعة الموز، بينما كان شعب جواتيمالا يموت فقرا وعوزا، ولا يجد المزارعون العاملون فى حقول الشركة الأمريكية الحد الأدنى اللازم للحياة.
وفى عام 1950 انتخب هاكوبو آربينز رئيسا لجمهورية جواتيمالا، ولم يكن آربينز شيوعيا، لكن بعض أنصاره كانوا شيوعيين.
وعمل آربينز ذو الخلفية العسكرية على الفور على بناء المجتمع الجواتيمالى المتأخر، فبدأ عددا من المشروعات القومية لتحديث البنية التحتية للبلاد، وشعرت أمريكا بالانزعاج.
يقول هوارد هانت، مدير مكتب المخابرات المركزية الأمريكية فى المكسيك، إن بلاده شعرت بوجود تدخل أجنبى فى جواتيمالا، لأن الأحزاب القومية اليسارية لا يمكن إلا أن تكون منتجا من منتجات موسكو التى تقدم لهذه الأحزاب التمويل والمشورة.
وتؤكد شهادات قادة المخابرات السوفيتية فى أمريكا اللاتينية فى هذا الوقت أن حكومة آربينز لم تحصل على أى دعم من أى نوع من الاتحاد السوفيتى، بل لم تكن لموسكو علاقات دبلوماسية بجواتيمالا أصلا، لكن واشنطن كانت قد ترجمت أعمال آربينز الإصلاحية على أنها مؤامرة شيوعية فى محيط أمنها القومى.
وجاءت المواجهة الحقيقية عندما أعلن آربينز عن خطة للإصلاح الزراعى، وتضمنت هذه الخطة شراء الأراضى المستصلحة وتمليكها للسكان من المزارعين، وفى المقابل عرض آربينز على ملاك الأراضى الأصليين الثمن الذى كانوا قد أعلنوه بأنفسهم للضرائب.
وعرض آربينز على شركة يونايتد فروت الأمريكية نحو مليون دولار فقط مقابل نصف مليون فدان تمتلكها، وعندما أعلن آربينز تأميم الأرض على أساس الأسعار التى طرحها، طالبت يونايتد فروت – بدعم من واشنطن بالطبع – ستة عشر مليون دولار.
وبعثت واشنطن برسالة إلى آربينز مع سفيرها الجديد، جون بيوروفوى، الذى كان يعمل فى السابق سفيرا/ عميلا للمخابرات فى اليونان، وله تاريخه فى مواجهة المد الشيوعى هناك، وكان مفاد الرسالة أن حل مشكلة يونايتد فروت أمر بسيط يمكن التوصل فيه إلى تسوية ترضى جميع الأطراف، وأن المشكلة الحقيقية ليست فى أزمة الشركة الأمريكية التى تستغل الموارد الجواتيمالية، وإنما فى الشيوعيين الذين تسللوا إلى مناصب فاعلة فى حكومة آربينز.
كان وزير الخارجية الأمريكية جون فوستر دالاس شريكا فى مكتب المحاماة الذى يدافع عن مصالح يونايتد فروت كومبانى، وكان شقيقه آلان دالاس رئيسا للمخابرات الأمريكية، ولم يجد الاثنان صعوبة تذكر فى إقناع الرئيس الأمريكى أيزنهاور بمنحهما الضوء الأخضر للإطاحة بحكم آربينز.
ودعا دالاس الأمريكيين للاحتشاد وراء هدف مواجهة المد الشيوعى، وتعالت النبرة العدائية من أمريكا تجاه جواتيمالا، وعاد آربينز إلى ارتداء ملابس الكولونيل، وبدأ فى حشد بلاده استعدادا لحرب قادمة مع الولايات المتحدة.
لكن أمريكا شنت حربا من نوع آخر، فقد بدأت شرارة المعارضة الداخلية لآربينز من إسكى بولاس، الضريح التاريخى فى بلد كاثوليكى حتى النخاع، بالطبع على قاعدة أن الشيوعية ضد المسيح.. وكانت بداية الحرب التى لم يتوقعها آربينز.
ولهذا الحديث بقية فى المقال القادم إن شاء الله.