أرسلت مستمعة كريمة رسالة بينما كنت ضيفاً على موجات إحدى الإذاعات، وكنا نتحدث عن دور المواطن الذي يجب أن يفكر فيه كما يفكر فى حقوقه، قالت فيها «كيف يمكن لشخص ناجح مثلي أن يعيش فى مثل هذا البلد الذي لا يعطي الحقوق، وكيف يمكن لي أن أربي أبنائي فيه؟».
لم يكن كلام المستمعة سؤالا استفهامياً بقدر ما كانت علامة الاستفهام في آخره تعجيزية، بحيث تكون الإجابة حتما: «مستحيل طبعا»!
أجبت على السؤال إجابة تقليدية تنتمي إلى عالم محفوظات التربية الوطنية التي علمتنا أن نقدم الواجب على الحق، وأن نقدم الصالح العام على الصالح الخاص، ومنقولش إيه إديتنا مصر.. قول هاندي إيه لمصر.
لكن الحقيقة أن السؤال شغل ذهني إلى ما هو أبعد من تلك الإجابة الجوفاء، ودفعني دفعا إلى الدخول في معضلة البيضة والفرخة حول أيهما يأتي مقدما على الآخر، الحق أم الواجب.
ما أتصوره مثاليًا هو أن يولد الإنسان في وطن يراعي حقوقه الأساسية، ويعطيه ما هو أكثر من الأساسيات قدر الاستطاعة، فتنمو فيه منذ طفولته نزعة الانتماء والإحساس بأن واجباته تجاه هذا الكيان الذي ينتمي إليه من أساسيات تكوينه الشخصي، فهو لا يبذل الواجب لأنه مفروض عليه، وإنما لأنه مجبول على ذلك.
لكن هذه الصورة في بلادنا أكثر من مثالية، بل أكثر من خيالية، فنحن بنو وطن إن كان يرغب حقا في أن يعطي أبناءه الكفاف من الحقوق فهو لا يقدر، ويحتاج إلى الكثير جدا كي يصل إلى أيهما، الرغبة في منح الحقوق والقدرة على منحها.. فمن الذي سيبذل هذا «الكثير جدا»؟
من هي تلك الفئة من المواطنين التي ستتحمل كلفة إقامة هذه البلاد على أقدامها وأعباء نفخ الروح فيها؟
لا أرى لهذه المهمة شبه المستحيلة بديلا عن هذه الفئة التي بذلت بالفعل أقصى ما يمكنها وأنفقت أقصى ما تستطيع كي تنجح في تعليمها أو تفلح في أعمالها.. الحقيقة أن الفئة التي أضناها العمل على بناء نفسها مالا وعلما هي الفئة الوحيدة المؤهلة لتحمل عبء إعادة البناء.
وكأنه قد كتب عليهم أن يتعبوا مرتين، مرة في بناء أنفسهم ومرة في بناء الوطن، وكأن الذين تكاسلوا واستهتروا في بناء أنفسهم قد كتب عليهم أن يستريحوا مرتين، مرة في بناء أنفسهم ومرة في بناء الوطن.
سيخوض الناجحون المخلصون وحدهم المعركة للمرة الثانية، وليس أمامهم خيار إلا أن يخوضوا البحر أو الجو إلى وطن جديد يعيشون فيه، تاركين وراءهم مصر غنيمة للصنف الذي لم يبذل من أجلها شيئا في الماضي، ولا يملك أن يبذل من أجلها شيئا في المستقبل.
ساعتها ستخلوا مصر أيتها المستمعة العزيزة من كل شيء يعني الوطن، ولن يجد أبناؤك مكانا يعودون إليه إذا رغبوا، فإن كان يعنيك هذا فقد وصل إلى ذروته، ولن يتصدى له غيرك، وإن لم يكن يعنيك فلا لوم على من يخشى على حياته فيهاجر في أرض الله الواسعة، وهذان خياراك فانظري ماذا تختارين.
هؤلاء الفاشلون المتلطعون على جدران مواقع التواصل يتصارخون ويتبادلون السباب والشتم على هوامش المبادئ الثورية المستوردة لن يبنوا هذا الوطن.. هؤلاء الخائبون من جيل هرسته حوافر عصر مبارك الخشنة لن يبنوا هذا الوطن.. هؤلاء المظلومون من أبناء هؤلاء وهؤلاء ومن مطاريد أنصاف الحلول وأنصاف التعليم وأنصاف الأفكار والعقائد المشوهة لن يبنوا هذا الوطن.
إن كان هناك من سيبني فهم الناجحون، حتى وإن أحس بعضهم أنه يدفع الضريبة مزدوجة، وهو للحق ليس كذلك، فالجانب الأخلاقي من المسألة يقول إن الناجحين ما زالوا ثروة وطنية يملكها المجتمع، ويملك أن يطالبها بالعون ما لم يصل ذلك إلى درجة العسف أو السخرة، ونحن لم نصل إلى هذه الدرجة بعد.. ولكن حتى لو شعر بعضهم بذلك، فليست هناك بدائل عنهم إلا أن نستورد شعبا آخر، فالفاشلون يا عزيزتي لن يبنوا هذا الوطن.