«ولى الدم» مصطلح معروف لدى دارسى الشريعة الإسلامية، وهو الشخص الذى يملك الحق الشرعى فى المطالبة بالقصاص لدم القتيل أو فى قبول الدية من القاتل وأهله، وهو أيضا الشخص الذى يملك حق العفو عن القاتل لوجه الله، أما ولاية الدم فهى امتلاك هذا الحق والإقرار به لشخص بعينه.
فإن قتل رجل رجلا كان أبو القتيل أو أخوه أو عمه أو كبير أهله وليا لدمه، وهو صاحب الحق الأصيل فى المطالبة عن دمه بالحق الجنائى والمدنى، فإن اختار العفو فهذا أمر مرجعه إلى كرمه وإحسانه.
ومع اعتناقنا للقوانين المدنية انتهى مبدأ منح ولاية الدم لأشخاص من أهل القتيل، وأصبح هذا الدم بشقيه الجنائى والمدنى التزاما خالصا على الدولة، فهى تقتضى الدم بقوانينها الجنائية والمدنية طبقا للقانون، وهى صاحبة الحق الجنائى بوصفها تمثل المجتمع الذى يمثل القتل عدوانا عليه بشكل جماعى.
وطبقا للقوانين تحاكم الدولة القاتل، وتنظر فى ظروف ارتكابه للجرم وتفرز منها الظروف المشددة والظروف المخففة، دون أن تكون لها سلطة العفو والمكرمة التى كانت فى يد ولى الدم فى المجتمعات البدائية والتى أقرتها الشريعة الإسلامية على حالها فصارت قانونا أسست له الأعراف.
أى أن صيانة أرواح المواطنين قد أصبحت التزاما على الدولة لا حقا لها، وبناء عليه لا تملك الدولة فى الأصل حق التصالح على دماء مواطنيها تحت أى ظرف.
وعلى هذا الأساس الشرعى والقانونى لا تملك الدولة المصرية حق التنازل عن دماء المصريين الذين قتلتهم قطر ومن والاها بالفعل المباشر وغير المباشر، وليس فى الدولة المصرية من له سلطة إسقاط التزام الدولة باقتضاء الحق عن الدم المصرى مهما علت رتبته ومهما كان منصبه.
وربما بدا هذا الكلام بديهيا، لكن النص على البديهيات تذكير يقيم نصاب الأمور إذا اهتزت نفوس الناس وانجرفت وراء شائعات تدعى أن الدولة المصرية قد تتصالح مع قطر إذا تخلى عنها حلفاؤها الخليجيون، فهذا التصالح، الذى لن يكون، ليس من سلطة الدولة المصرية أصلا وفرعا، ولا توجد تخريجة قانونية أو فقهية واحدة تعفى الدولة المصرية من التزامها وواجبها القانونى والسياسى باقتضاء الدم ولو بالدم.
ومن سقط القول أيضا أن أضيف أن دول السعودية والإمارات والبحرين أيضا لا تملك الحق فى التنازل أو التصالح، لا عن دماء مواطنيها ولا عن مصالحهم، وبالطبع ليس لها أن تتنازل عن دماء مواطنينا ولا عن مصالحهم التى تضررت أيما ضرر بفعل السياسات القطرية المعادية.
فإن فعلت فى دماء مواطنيها فقد سقطت فى بئر التهاون والتفريط، وإن فعلت فى دمائنا فقط سقطت فى هوة التآمر على مصر وأهلها، والتحالف مع عدوها على دماء مواطنيها وأموالهم وأعراضهم، وهذا أمر عظيم ثقيل لا أظن أحدا يأمن نتائجه.
أما من الناحية السياسية، فعلى عكس ما يظن مدمنو الدونية ومتعاطو الانكسار والضآلة، لم تتحالف السعودية والبحرين والإمارات مع مصر إلا لأنها تعرف قيمة وجود مصر فى هذا الحلف الذى سينقصه كل الثقل إذا استبعد من معادلته اسم مصر وجيشها وشعبها وقضيتها.
فجبر الخواطر وتبويس اللحى ومكرمات الأشقاء وأهل العباءة الواحدة لن تحمى هذه الدول من توحش إيران التى تقف متربصة على مرمى حجر من دول الخليج كلها، بل سيحميها جيش مصر الباسل وعمقها السكانى السنى الذى يجعل اتحاد هذا المحور كتلة طائفية لا يستهان بها إلى جانب قوتها الاقتصادية المعروفة.
وسيحميها وزن مصر الاستراتيجى واستخباراتها النافذة وقدرتها على الفعل السياسى التى كانت قد غيبت لعقود والآن عادت لتضع قبضتها فى كفة الميزان لتميل كفته لصالح كل من يختار أن يتحالف معها، وعلى رأس كل من ساقه حظه العثر لأن يقف فى طريقها.
لقد اختارت هذه الدول اختيار الحق عندما اختارت مصر، وهو فى الوقت نفسه اختيار العقل والحكمة، ولن يقنعنى أحد أن ذلك قد حدث حبا فى سواد عيوننا أو هياما بخفة ظلنا، فهذه الفضائل لا تطعم بطنا ولا تحمى ظهرا فى أيامنا تلك.
فإذا لازمنا حلفاؤنا فخير ونعمة ومدد مشكور ومأجور، وإذا تركوا الركب فليذكرنا من يذكر بيوم انقطعت فيه مصر عن الدفاع عن حقها عندما تخلى عنها الجميع.
بل هى ولاية الدم العربى كلها التى حملت مصر فى يمينها هم اقتضائه من كل عاد، ومن إمارة الدم هذه المرة.