كانت القضية البيئية والاقتصادية الرئيسية التى بدأ بها عصر مبارك هى حمى تجريف الأراضى الزراعية بغرض صناعة الطوب الأحمر، وتبويرها تمهيدا لتحويلها إلى أراض للبناء، وكانت القضية السياسية والاجتماعية والإنسانية التى انتهى إليها عصر مبارك هى التجريف أيضا.. لكنه التجريف الذى طال كل ما هو جميل وكل ما هو شريف وكل صالح ونافع ولامع من رجال مصر.
حكم مبارك مصر وكان هاجسه الدائم أن يظهر فى طول البلاد وعرضها رجل يرى الناس أنه يستحق الحكم أكثر منه، وترك مبارك حكم مصر مطمئنا أنه لم يترك فيها رجلا واحدا يمكنه أن يثير هذا الهاجس.
وفى سبيل القضاء على خوفه الدائم من هذا الرجل المجهول، جرف البطانة الداخلية من المسئولين ورجال السياسة والمال والإعلام من هذا النوع من الرجال، وترك الأرض بورا يظنها الناظر لن تنبت فى يوم ما أى نبت صالح.. بل يكاد يشك أنها أنبتت يوما ما رجلا من هذا النوع.
كان فزع الناس أيام الثورة أنهم لم يكونوا يثقون فى المستقبل، لأنهم لا يعرفون للرجل بديلا.. بل لا يعرفون لرجاله فى كل المجالات بدلاء أيضا! كنا نخاف حتى فى سنوات حكمه الأخيرة لأننا كنا نعرف- وكان هو أيضا يعرف- أننا سنبحث فلن نجد تحت دائرة الضوء غيره وغير بطانته التى انتقاها على خير ما ينتقى المستبد بطانته.
كان رجال الصف الأول فى عصر مبارك، خاصة فى العقد الأخير من حكمه، كأنهم عرق أو سلالة من البشر غيرنا.. لهم مواصفاتهم الإثنية والفسيولوجية الخاصة! كانوا جميعا غلاظ القلوب سميكى الجلود باردى الوجوه! كانوا جميعا من فصيلة لا تشيخ ولا تشيب ولا يطرأ عليها الزمن ولا تموت!
كانوا جميعا من صنف لا يقنع ولا يشبع ولا يسمع! والأهم من ذلك كله أنهم كانوا وحدهم يصلحون للعيش تحت دائرة الضوء، وكان أى خلق غيرهم لا يجد إلا دوائر الظلام أو دوائر الظل على أفضل تقديرات الحظ.
وخلت لوحة الشرف من أى اسم يستحق أن يكتب اسمه فى هذه اللوحة..
وعندما قامت الثورة لم تحمل حلا لهذه المعضلة كما لم تكن تحمل حلا واضحا لأى شىء سوى التخلص من هذا الكابوس، حتى ولو كان البديل كابوسا أبشع، وهو ما حدث بالفعل.
جاء الإخوان برجال كانوا أيضا وكأنهم اقتطعوا من فصيلة غير الفصيلة وسلالة غير السلالة، لكنها هذه المرة كانت سلالة تربت فى الظلام وتحت الأرض، فجاءت على شاكلة ديدان الطين، باردة غبية عمياء، لا تميز إلا ما يباشرها من الطين، ولا تعرف كيف تكون الحياة فوق الأرض وتحت النور، وكانت النتيجة أنها ضلت الطريق قبل أن تدرك بدايته أصلا، ثم زحفت تحت الأرض حيث جاءت أول مرة دون أن تترك للناس اسما يستحق أن يوضع فى لوحة الشرف أيضا.
وعلى مدار عقود طويلة ظلت دابة الانحدار تنخر فى لوحة الشرف حتى لم تدع منها إلا أقل القليل ممن يصلحون لأن يتخذهم المصريون أبطالا، وضاقت دوائر الاختيارات- على الأقل من الناحية الظاهرية- إلى عدد محدود جدا جدا من النجوم فى أى مجال.. وفى كل مجال تقريبا.
وكانت نتيجة ذلك بالطبع أن تطاول الأقزام، وتعالت أنصاف المواهب، وتسابق القطعاء إلى اكتساب الأدوار، بل تجاوز بعضهم إلى اعتبار هذه المكاسب والمناصب حقوقا شرعية لهم.
وكانت النتيجة الأخطر هى أن الشعب المصرى وجد نفسه محاصرا فى اختيارات بعضها انتهت صلاحيته وباد زمنه من ثمار عصر مبارك المسمومة، وبعضها لم يأت أوان نضجه بعد من ثمار جيل الشباب الذى يتوق إلى الحرية قبل أن يفهم مسئولياتها وخطورة ضماناتها، وبعضها لم يكن يصلح فى الأصل من ذئاب التطرف والعمالة والإجرام.
فهل من اسم يعمل الآن على تنمية مهاراته وزيادة علمه وصيانة أخلاقه ومبادئه لنرى اسمه قريبا فى لوحة الشرف؟ وهل يصبح هذا الاسم ألف اسم لننتقى من بينهم وزراءنا ومحافظينا ونوابنا فى البرلمان ورؤساء مصالحنا الوطنية ونجومنا مثلنا العليا؟