كانت قناعتى الدائمة إن على الدولة أن تتخلص من ملكيتها لوسائل الإعلام، وكنت أتصور أن هذه هى الطريقة الوحيدة لإصلاح الإعلام، خاصة بعد أن وصل إلى هذه الحالة المستعصية التى وصل إليها بكل صوره، سواء كان مطبوعًا أو مسموعًا أو مرئيًا.
ولكن الأزمة فى تطبيق هذا الحل تتمثل فى وجود عدد هائل من العاملين فى إعلام الدولة، وهم مسئولية إنسانية وأخلاقية واقتصادية ألزمت بها الدولة نفسها فى مرحلة من المراحل ولا يمكن أن تتخلى عنها الآن فجأة ودفعة واحدة حتى ولو بدعوى الإصلاح.
كما أن الدولة بظروفها الراهنة تحتاج إلى ذراع إعلامية تدعم مشروعها البنائى الجديد، وليس هناك عقل فى محاولة بناء إعلام جديد، أو تبنى إعلام خاص، ما دامت الدولة تملك بالفعل الأدوات اللازمة لإنتاج إعلام يساند خططها ويسوق لها ويبنى لها الأرضية الذهنية والوجدانية اللازمة لإقامة مشروعاتها.
والحقيقة إن الدولة تملك داخل ما تملكه من صحف وقنوات ومحطات إذاعية ما يكفى لتحقيق التفوق إعلاميا، ما عدا الرغبة فى التفوق نفسها.
ولنتصور أن كل القنوات العربية الكبرى التى تغزو مساحة مشاهدينا هى فى الحقيقة قنوات يديرها مصريون، أو يمثل المصريون عماد موظفيها ومحرريها وصحفييها، أو هى فى النهاية قنوات تعرض المنتجات الترفيهية المصرية من أفلام وأغان ومسلسلات ومسرحيات.. كله مصرى، فلماذا لا ينجح المصريون؟
ولنتصور أيضا أن القنوات المصرية تملك الكوادر البشرية التى تصنع النجاح فى القنوات الأخرى، كما أنها تملك الاستوديوهات والمعدات والخبرة الفنية، وعشرات العناصر الأخرى التى تكفى لتشغيل هذه القنوات بطاقتها الكاملة.
سيكون الاستنتاج البسيط من التصورين السابقين هو ما نعرفه جميعا، وهو أن الإعلام المملوك للدولة فى مصر لا يملك الدافع للتفوق، لأنه يدار بشكل خاطئ.
وتبدأ الخطيئة الإدارية فى الإعلام المصرى المملوك للدولة من أنه ينشأ دون هدف استراتيجى يبرر الإنفاق عليه، حتى لو كان هذا الهدف هو الربح التجارى المحض، ولا أعتقد أن أحدا يعرف سببًا وجيهًا لامتلاك الدولة لما يزيد على عشرين قناة وعشرات المحطات الإذاعية وعشرات الصحف والمجلات.
فلا هى بالمؤسسات الرابحة تجاريا ولا هى بالبوابات التى تستحوذ على أى حصة حقيقية فى عملية تشكيل الرأى العام ولا هى بالمساهم الفاعل فى تشكيل الوعى والوجدان الوطنى أو الحضارى للشعب الذى يدفع من دم قلبه لتمويلها.
وعليه فإن إصلاح هذه المنظومة المترهلة يبدأ من التوقف ولو ليوم واحد للاتفاق على هدف استراتيجى لها، وليكن هذا الهدف تثقيفيًا أو توجيهيًا أو تجاريًا.. ليكن ما يكون لكنه يجب أن يكون موجودًا.
هذا هو البند الأول فى عملية الإصلاح المنشودة، وهو هدف يمكن تحقيقه من خلال تشكيل لجنة شعبية موسعة تضم بداخلها لجانا من الفنيين والمختصين وأهل الخبرة فى مجالات الإعلام والاقتصاد والاجتماع والسياسة وكل أبواب الاختصاص التى تتعلق بالإعلام كصناعة وكوظيفة اجتماعية، ويكون دور هذه اللجنة هو الخروج بالاستراتيجية الإعلامية التى تحدد الأهداف لهذه المنظومة القائمة بالفعل.
من حق الشعب أن يعرف ما الذى يريده من قنواته وصحفه وإذاعاته، وما الذى يجب أن يطلبه من هذه البوابات الإعلامية وكيف يرى دورها فى تحقيق مصالحه وما واجب هذه القنوات بعد تحقيق مصالحها، فالمنطق المشروع يوجب ألا يكون الشعب المصرى هو المالك الوحيد لإعلام يتكلف الكثير ولا يعرف مالكه الفعلى فائدته ونفعه له ولمصالحه.
وربما كانت لهذه المنظومة أهداف عندما نشأت للمرة الأولى فى الستينيات، لكن التوقف الطويل عن تجديد الأهداف الاستراتيجية لها هو الذى أدى فى النهاية إلى أننا أصبحنا نمتلك هذا الإعلام الذى صار كذكور النخل التى تشرب الماء وتنهك الأرض وتستقطب الغربان ولا تطرح ثمرا فى النهاية.