الاحتمالات تقيس صلابة الجدل، وطرحها يثبت سلامة الحجة، وقد يغلق النجاح فى إجابتها فصلا حاسما حينا، ويكون الفشل فى مواجهتها ضوءا كاشفا لضعفها وتهاويها، بل وعلى فساد ما قامت عليه من رأى أو شعور أو مذهب.

دون الخوض فى موقفى من القضية الذى أعيد التأكيد عليه بأنه تمام الثقة فى القيادة السياسية والعسكرية وفى مؤسسات الدولة القائمة على الأمر، والتى لا أقبل باحتمال تخاذلها فى أمر الأرض التى صانتها هذه المؤسسات بشرف ودافعت عنها بمجد لم يكن يوما محل سؤال أو تشكيك.. وقبل أن نبدأ لعبة الاحتمالات، دعونى أؤكد أن هذه اللعبة مفتوحة للطرفين المتناحرين معا، وأنها اختبار يمكن لكل قارئ أن يحتفظ بنتيجته لضميره، وكفى به مراقبا وحسيبا.

الاحتمال الأول، وهو لأنصار مصرية الجزيرتين، والمدافعين بضراوة عن فكرة تآمر كل رجال الدولة على بيع جزء من القطر المصرى: ماذا لو تبين لكم أن اتفاقية تعيين الحدود بين مصر والسعودية تلقى فى جانب المملكة جزيرة ثالثة غير جزيرتى تيران وصنافير؟ هل ستكون لهذه الجزيرة الافتراضية نفس القيمة السياسية والعاطفية التى ولدت خلال العام المنصرم لتيران وصنافير أم أنها ستظل بلا نسبة ولا نسب لأنها ستفسد سلامة الهاشتاج، أو لأنها ستعدم تاريخ حملة الدعاية الكبيرة التى قامت على أساس أن الاتفاقية كلها تخص الجزيرتين فقط؟

الاحتمال الثاني، وهو للمدافعين عن سعودية الجزيرتين، والمؤيدين للتخلى عنهما بلا معرفة لا بالجغرافيا ولا بالتاريخ، وإنما هو الدفاع نكاية فى خصومهم من الإخوان وأذيالهم الذين إذا رأوا رأيا وجب علينا أن نرى ضده: ماذا لو صحا الرئيس من نومه غدا فأعلن تراجع مصر عن الاتفاقية، وقال أنه يقر بمصرية الجزيرتين إقرارا قاطعا لا رجعة فيه، فهل سيرجع هؤلاء عن أطنان الوثائق التى نشروها لتأكيد سعودية الأرض؟

الاحتمال الثالث، لمن يتهمون الرئيس عبد الفتاح السيسى ببيع الجزيرتين للسعودية: ماذا لو وقعت معجزة من الله الذى لا يعجزه شيء، فعاد فاروق الأول وجمال عبد الناصر وأنور السادات من رقدتهم الأبدية ليجتمعوا بمبارك فى عيشته الأبدية، ثم خرج الأربعة فى مؤتمر صحفى ليقر كل منهم بدوره وعلاقته بهذه القضية، فاعترف فاروق بأنه تسلم الجزيرتين أمانة من السعودية، وأقر ناصر بأنه ادعى ملكيتها لمصر ليحصن قراره بقطع الملاحة فى خليج العقبة عالما بأنها ليست مصرية، وأقر السادات بأنه سبق أن اعترف بسعودية الجزيرتين بنفسه وبأن المصالح المصرية والسعودية متطابقة..

ثم أقر مبارك بأنه صدق على اتفاقية الحدود البحرية فى مطلع عهده السعيد، ثم اتفق على تعيين الحدود مع المملكة واعترف بنقاط الأساس التى عينت على أساسها الحدود البحرية وأودعها بالأمم المتحدة، وبأن ذلك يعنى آليا أن الجزيرتين بهذه الإجراءات عادتا إلى السعودية، فهل سيعترف من نزعوا صفة الوطنية عن السيسى بأنه برىء من تهمة بيع الأرض؟ وهل سيعتذرون له عن الشتائم والإهانات التى كالوها له؟

الاحتمال الرابع، للمدافعين عن مصرية الجزيرتين: ماذا لو تبين لكم أن اتفاقية تعيين الحدود بين مصر والسعودية تنزع سيادة المملكة عن جزيرتين وتلقى بها فى جعبة مصر؟ هل تدافعون حينها عن سلامة الإقليم المصرى من الأرض الدخيلة، وعن حق السعودية فى أرضها من حيث إن الحق أحق أن يتبع من حيث المبدأ الذى تقولون إنه لا يتجزأ؟

الاحتمال الخامس، للذين يسقطون مؤسسات الدولة كلها فى سبيل الدفاع عن أرض يعرفون معرفة اليقين أنها ليست مصرية: مع الوضع فى الاعتبار أن اتفاقية تعيين الحدود ترسم خطا يفصل بين بحرين، وأن البحر الإقليمى جزء من إقليم الدولة لا يختلف فى قيمته الوطنية عن اليابسة، فماذا لو تبين لهم أن الاتفاقية تنزع كيلومترا مربعا من هذا البحر من هنا وتزرعه هناك، فكيف سيسمون هذا الكيلومتر بعينه، وكيف سيدافعون عنه، وهل سينضم إلى الهاشتاج وتنشأ عنه قصة كفاح وطنى تتضمن أبطالا وشهداء؟ كيف ستكيفون وضعية هذا الكيلومتر ليدخل فى صفقة بيع الأرض التى زعمتموها، أم أنكم ستعترفون بأنكم لا تعرفون تفاصيل الصفقة التخيلية التى اتهمتم بها كل شرفاء الوطن دفعة واحدة؟ وتعترفون بانهيار جدلية البيع التى قامت كلها على أساس أنها اتفاقية للتنازل عن الجزيرتين لا اتفاقية لتعيين حدود بقيت سنوات غير معينة وآن أوان تعيينها كى تتمكن مصر من الاستفادة السياسية والعسكرية والاقتصادية بإقليمها كاملا، برا وبحرا وجوا.

هذه لعبة بها فرضيات أكثر مما ذكرت فى هذا المقال، وكل فرضية يغفلها المقصود بها عامدا تقابلها بالضرورة علة فى نفسه.. أعاذنا الله وإياكم اعتلال الوطنية وسقم العقيدة ومرض النفس.

Link