يبدو أنها ستكون المدينة العصرية التى تستحقها مصر أن تكون عاصمة إدارية لها بعد سنوات من الإنهاك الشديد الذى حول القاهرة الأم إلى بؤرة تحتل المراكز المتقدمة كلها تقريبا فى معدلات الازدحام والتلوث والعشوائية والاضطراب وسوء المعيشة.

يبدو أن اسم القاهرة سيعود من جديد إلى الارتباط بمدينة عصرية منظمة جميلة كما كان الحال عام 1925 عندما كانت قاهرتنا الحالية أجمل مدن العالم، ويبدو أن الحلم هذه المرة قد ولد منظمًا ومخططًا على غير شاكلة أحلامنا المبتسرة التى ولدت مبتسرة مهلهلة معطلة خلال السنوات القليلة الماضية التى كنا نتعلم فيها كيفية تصميم وترتيب الأحلام.
أتمنى وأحلم مع الحالمين الذين خططوا للعاصمة الجديدة العصرية أن تكون هذه المدينة خالية من مظاهر كرهناها فى القاهرة الأم دون أن تتجاسر قلوبنا على أن نكره قاهرتنا على ازدحامها وقبحها وقسوتها.. أتمنى وأحلم ألا أرى فيها أشياء وأشخاصًا وأحوالاً ما كنت أتمنى أن أراها فى مدينتى التى أحببتها، وعلمت العشرات من الغرباء عنها كيف ينزلقون إلى عشقها السحرى الذى يجعل جلسة رخيصة على كرسى خشبى على رصيف متهالك من أرصفتها الأسمنتية خيرًا على القلب من استراحة فى قصر فى أى مدينة أخرى سواها.
أتمنى وأحلم ألا أرى فى القاهرة الجديدة عشرين جنيهًا مكرمشة تتسلل إلى يد موظف عام ليقضى مصلحة عطلها عمدًا طمعًا فى هذه «العشريناية».. وأتمنى وأحلم ألا أرى فى القاهرة الجديدة ذلك الوجه الجبان الذى يكرمش هذه «العشريناية»، ولا الوجه المنسحق الذى يقبلها.
أتمنى وأحلم ألا أرى فى العاصمة الجديدة ذلك الطفل الذى يعبث فى حديقة عامة، ويعيث بين أشجارها وزهورها إتلافًا وفسادًا، وألا أرى أمه الباردة تبتسم لأفعاله الشيطانية وترد عنه نصيحة العقلاء بأن يتوقف عن هذه الأفعال.
أتمنى وأحلم ألا أرى فى عاصمتى الجديدة، التى وقعت فى غرامها وهى لاتزال فكرة وصورة وماكيت، سيارة تقف فى الممنوع ولا سيارة تسير عكس الاتجاه ولا سيارة تعترض سير غيرها من السيارات لأن صاحبها يظن أنه اشترى معها وقت الناس وراحتهم وكرامتهم.
أتمنى وأحلم ألا أرى فى كابيتال كايرو لافتة قبيحة تضر الناظرين بحجة الإعلان عن مصلحة فردية، ولا واجهة نافرة عن المظهر الحضارى المرتب بحجة تمييز متجر أو دكان يرى صاحبه أن ذوقه الخاص خير لنا من ذوقنا العام، ولا تمثالاً قبيحًا يعتقد أحد العكاكين باسم الفن أنه يجمل وجه مدينتى الجميلة.. وأتمنى وأحلم أن تختفى من المدينة الجديدة طائفة العكاكين بأسرها.
لا أتوقع أن ينتهى الفقر فى بلادى بين يوم وليلة، لكننى أتمنى وأحلم ألا أرى فى المدينة الجديدة مشردًا أو متسولاً أو عامل نظافة يتنكر فى زى الخدمة العامة ليستجدى جنيهًا، ولا عاطلاً يقتطع لنفسه شارعًا يوظف مساحاته الحرة فى ركن سيارات الناس مقابل جنيهات بديلها البلطجة وتحطيم هذه السيارات أو خدشها.
أتمنى وأحلم ألا أرى فى هذه العاصمة الجديدة مدخنًا يستفز الآخرين بدخان سيجارته فى مكان عام غير مخصص للتدخين، وأتمنى أن أرى فيها أماكن آدمية مخصصة لمن اختاروا أن يدمروا صحتهم وحدهم وبقرارهم الحر دون أن يمتد اختيارهم ودون أن تتجاوز حرياتهم حقوق الآخرين فى هواء نظيف.
أتمنى وأحلم أن أرى فيها سكنًا اقتصاديًا لكنه فى ذات الوقت سكن آدمى يحترم ساكنيه، ولا يفترض أن يكون السكن الاقتصادى فقيرًا متهالكًا مقطوع الخدمات، ببساطة لأننى سئمت أن تكون الآدمية رفيقة للثراء، عصية بعيدة المنال على الغلابة.
أتمنى وأحلم بما لا يسعه هذا المقال من الكلام الذى أتمنى ألا يظل مجرد أمنيات وأحلام، وألا ينتهى كلامًا على ورق كما بدأ، لأننى أتمنى وأحلم أن يأتى اليوم الذى لا يحتاج أبنائى إلى التحايل على الغرباء ليقعوا فى غرام عاصمتهم كما فعلت أنا لسنوات.. لأننى أتمنى أن يتباهوا بحب عاصمتهم على أرض حقيقية مرتبة عصرية نظيفة، لا على كرسى خشبى على رصيف أسمنتى متهالك.

Link