فى حديث صحفى أجريته مع أحد السياسيين الهنود البارزين قبل بضعة أعوام سألت عن السبب الذى يجعل المواطنين الهنود الفقراء يزحفون بالملايين ليقفوا فى طوابير الانتخاب رغم أنهم حفاة أميون، بما يوحى بمعاييرنا أنهم ليسوا مستعدين بعد لفكرة الديمقراطية التى نظنها حكرا على الشعوب المتعلمة.
وكانت إجابة الرجل واضحة وحاسمة: «النخبة الهندية صادقة وغير فاسدة.. والشعب الهندى يثق بها»!
وما زالت هذه الإجابة تضىء وتخفت فى ذهنى كلما مرت بمصر حلقة من حلقات نهوضها السياسى الجديد ما بعد ثورة يناير، لتصبح بذاتها إجابة على كل سؤال تقريبا تطرحه هذه الحلقات، وكأنها تقول إن الحل فى كل مرحلة يكمن فى النخبة.
ولأننا دائما نحتاج إلى تعريف لكل ما معروف بالضرورة، وشرح لكل ما هو مفهوم بالعقل، فلنعد تعريف النخبة بأنها دائرة تضم قادة السياسة والفكر والعلم والعسكرية والمال والإعلام والرياضة وغيرها من القطاعات التى تقود أى مجتمع وتشكل توجهاته ومصيره.
النخبة ليست فقط الكتلة الحاكمة التى تضم القيادة السياسية وما يحيط بها من وزراء ونواب برلمان وقادة الاقتصاد الوطنى، فهذا تعريف النخبة السياسية فقط، ولكنها تتسع لتضم بقية النخبة فى كتلة يطلق عليها اسم «الكتلة الاستراتيجية»، وهذه بالتحديد هى القوة المحركة لأى أمة.
وظنى أن المسئول الهندى الرفيع كان يقصد النخبة الاستراتيجية الهندية كلها لا النخبة السياسية وحدها، وأنه يقصد أن هذه النخبة، بما تحوزه من ثقة الشعب الهندى فى قيمها وأخلاقها ومصداقيتها، هى مصدر قوة الأمة الهندية وسبب إيمانها بالديمقراطية.
ولم تعرف أدبيات السياسة المصرية مصطلح «النخبة» بكثافة تدعو إلى التفكر إلا بعد ثورة يناير، بعد أن طفا على سطح الحركة الشعبية لهذه الثورة بعض نشطاء الحقوق والرأى الذين حلا لهم أن يتسموا باسم النخبة، وحلا للناس أن يجعلوا هذا التعريف جامعا لهم مانعا لغيرهم.
ولأن هذه النخبة لم تكن مستعدة لهذا الدور، ولأنها لم تكن تضم غيرهم ولا قبلهم ولا بعدهم، سواء فى ظنهم وفى ظن غيرهم، فشلت فى أن تملأ مكانها أو تقوم بدورها، وسرعان ما خسرت ثقة الناس فى شخوص هذه النخبة الهشة وفى مصطلح النخبة نفسه.
وإذا كنا نتحدث فى هذه الأيام عن بناء دولتنا الجديدة، فليس من المتصور أن تكون بداية هذا الحديث عن شىء غير نخبة جديدة تستطيع أولا أن تستعيد ثقة الشعب المصرى، وتستطيع ثانيا أن تجر قاطرة تقدمه نحو أهدافه المشروعة التى يحلم بتحقيقها.
يجب على هذا الوطن، شعبا وقيادة، أن يعمل على بناء نخبته الجديدة فى كل مجال بدءا من السياسة إلى الرياضة، مرورا بالاقتصاد والعلوم والفن والإعلام.
ويجب على كل أفراد النخبة الكامنة فى كل مكان فى هذا الوطن أن يستعدوا للقيام بدورهم على أفضل ما يمكنهم الاستعداد، ويجب ألا يقتصر هذا الاستعداد على التأهيل الفنى وحده بالمعرفة بأصول الصنعة التى ينتمون إليها أيا كانت، ولكن استعدادهم يجب أن يمتد إلى تأهيل أنفسهم بما يكفى من القيم والأخلاق التى تستدعى ثقة الشعب فيهم.
وحتى لا يكون هذا الكلام مجرد طموح وهمى، يجب أن يدمج هدف بناء النخبة الجديدة فى أهداف التعليم فى مصر، أى يجب أن يكون من أهداف منظومة التعليم أن تفرز هذه النخبة، كما يجب أن يكون الإعلام العام المملوك للدولة أو الموالى لأهدافها ذراعا فى هذه الصناعة المستقبلية الثقيلة باستكمال التأهيل الفنى والقيمى، وبمساعدة النخبة الجديدة فى استعادة ثقة الشعب فى قيادة هذه النخبة لأهدافه.
المؤكد أن هذا الهدف الاستراتيجى لن يتحقق بمجرد تمنى تحققه، وأنه يحتاج إلى تخطيط جاد وتنفيذ حاسم ودقيق، لكنه فى الوقت نفسه ليس هدفا مستحيلا، وإذا حققناه فلن نكون أول أمة تنجزه، لأن العديد من الدول سبقتنا إلى تحقيقه، واستفادت فى بناء مستقبلها بذخيرتها من أبنائها المميزين لتحيا مصر بأنفاسهم وعلى سواعدهم الصادقة.

Link