يدرك الإنسان بطبيعته المتكيفة المتقبلة للتغيير أن الزمان لا يقف عند أى نقطة، ولا لأى سبب، لكن العقل المشترك للجماعات البشرية يتأخر دائما عن إدراك التغيرات بشكل عام، ولذلك فهو يتمسك بأدبيات المواقف السياسية حتى بعد زوال المواقف نفسها.

فهناك شيء ما ربما كان متجذرا فى المعتقد البشرى يوحى للإنسان بأنه ملتزم بالتمسك بالمواقف التى ثبتت عليها جماعته البشرية لفترة طويلة، لا بحكم الاعتياد، وإنما بسبب الخوف من أن تتهمه الجماعة بأنه كان من السابقين إلى التخلى، ولذلك يستمر تمسك الجماعة بمواقفها – ظاهريا – بعد أن يتخلى أفرادها فرادى عن هذه المواقف.
وتستمر لعبة انتظار كل فرد أن يتخلى غيره عن «القضية» طويلا قبل أن يحدث الاصطلاح الجماعى على أن القضية نفسها ماتت وشبعت موتا، ليبدأ إعلان كل فرد تدريجيا عن قناعته التى أخفاها طويلا خوفا من العصاب الجماعى المتوقع.
حتى جداتنا يعرفن أن «كل وقت وله أدان»، لكن «أدان» التغيير فى العادة يتأخر على وقوع التغيير نفسه الذى يأتى متحفظا متحسسا خطاه فى حذر، لأن فصام القبيلة أقوى من قناعات أفرادها دائما، وأشد عنفا من واقعها الحقيقى الذى يجب أن يستمع فى النهاية إلى أذان التغيير.
والتغيير تفرضه مصلحة الجماعة الإنسانية لا مشاعرها – سواء كانت حقيقية فى وقتها أو موروثة من تاريخ لم يبق له أثر – لكن النفس البشرية التى تتشدق كثيرا بالمثل العليا والمطلقات تترفع دائما عن الاعتراف بأن المصلحة دافع مشروع لتصرفها، وتميل إلى بناء مواقفها على قاعدة قيمية من هذه المثل والمطلقات.
تتصارع الأمم على مصلحة، ثم تعود إلى التحالف متى تغيرت المصلحة بما يفرض التحالف، وفى الحالتين تعيش قطاعات من هذه الأمم على ذكرى العداءات السابقة وأدبياتها كأن المصلحة لا تعنيها فى شيء، وكأن العداء نفسه قد بنى على مبدأ وقيمة فى الأساس لا على مصلحة زالت وحلت محلها مصلحة جديدة.
دارت حروب طاحنة بين بريطانيا وفرنسا عندما كان المبرر للصراع قائما، ثم تحالفتا عندما تغيرت المبررات، ثم دخلتا مع أوروبا فى اتحاد اقتصادى وسياسى بدا وكأنه من مسلمات الواقع الاستراتيجى العالمى، ثم انفصلتا – بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى – عندما رأى الشعب البريطانى أن هذا الاتحاد ينتقص من مصالحه، وربما تلى هذا الانفصال عداء أو تحالف.
لكن الشاهد الثابت فى هذه الدورة التاريخية هو أن الأدبيات السياسية فى البلدين صمدت طويلا فى صف العداء بعد انتهائه، وأنها ستصمد طويلا فى صف التحالف حتى بعد انتهائه.. بينما الشاهد الأكثر وضوحا هو أن عجلة التاريخ تدرس هذه الأدبيات وتهرسها دائما تحت أضراس المصلحة.
ولا شك أن كل أمة تعرف فى كل انقلابة تاريخية مواجهات بين واقعها الذى تحركه مصالحها، وبين أدبياتها السياسية التى تستمد قوتها من قداسة مواقف السلف السياسى الصالح.
ستصافح فى يومك عدو الأمس، وستقطع فى غدك اليد التى صافحتها اليوم، وهكذا سنة التاريخ التى تعرف عداءات أبدية، ولا تعرف صداقات تدوم، وسترفرف راياتك فى يومك على جبهة فى مواجهة خصمك، ثم ترفرف فى غدك إلى جوار رايات نفس العدو فى مؤتمر أو لقاء أو قمة ثنائية.
وسيلعنك «الثابتون على المواقف» و«القابضون على جمرة الممانعة» فى كل خطوة لأنك «بعت القضية»، سواء كانت قضية العداء أو قضية المصالحة.
وهؤلاء يكسبون قلوب وعقول العامة دائما، لأن العامة بطبيعتهم يعشقون المواقف الحدية، ويعبدون أصنام البطولة، فيفضلون رعاة الكلام على رعاة المصلحة.
ولأن الدائرة لا تتوقف عن الدوران، سيأتى اليوم الذى يلعن فيه نفس العامة رعاة الكلام وأصحاب الأدبيات المتأخرة، وسيذكرونهم بكل احتقار أنهم معطلون بائسون وضعوهم وراء التاريخ، وحرموهم اقتناص المصلحة عندما كانت سانحة.
ولأن الدائرة لا تتوقف عن الدوران، سيأتى اليوم الذى تتحول فيه المصالح إلى مبادئ راسخة لها أنصارها وأبطالها، ولها من يقبض عليها، وهكذا.. جولة «لا تصالح» وجولة «لا تعادي».

Link