تزخر أدبيات الحضارة بتجارب لصناعة الإنسان الملائم للمرحلة التاريخية التى تمر بها أمته، ليكون فى نهاية التجربة لبنة صالحة يبنى منها المجتمع جداره البشرى الذى يصد به التحديات التى تواجهه.

كانت إسبرطة واحدة من دويلات المدن فى بلاد الإغريق، وكان مشروع الإنسان الذى تحتاجه هو الإنسان المحارب، فكان المحارب الإسبرطى يقضى حياته منذ الفطام وإلى الموت يتدرب على القتال حتى يحظى فى النهاية بشرف أن يموت محاربا أو أن يعيش محاربا من أجل مدينته.
وكانت إسبرطة تعزل الأطفال المعاقين والمرضى منذ ميلادهم، وتلقى بهم إلى حتفهم فى البرارى خارج المدينة حيث تفترسهم الوحوش، لأنهم لن يكبروا على شاكلة المواطن الإسبرطى المثالى الذى يجب أن يكون سليم البنية قوى الجسد.
وكتب مفكرون شيوعيون الكثير عن «الإنسان السوفيتى الجديد» أو «الإنسان الشيوعي»، متحدثين عن صناعة الإنسان المناسب لمرحلة ما بعد انتصار البروليتاريا وتحقيق الوفرة الاقتصادية.
والحقيقة أن كل المجتمعات البشرية، وفى كل العصور، تصنع إنسانها المناسب للمرحلة، حتى ولو غاب عن أدبياتها السياسية أو الاجتماعية أى ذكر لهذه الصناعة، فهى صناعة قائمة بحكم الواقع والطبيعة ولو لم تكن نتاجا لعملية فكرية مسبقة.
الشاهد هو أن المجتمعات تنتج بقدر حاجتها وعلى الهيئة المطلوبة إنسانا يصلح للحياة فى الحالة التى تمر بها هذه المجتمعات، وهى كأى صناعة اعتيادية تقبل المطابق للمواصفات وتستبعد غير المطابق، فإذا كانت المجتمعات فى حالة حرب أنتجت المحاربين ونبذت الجبناء، وإذا كانت فى حالة اضمحلال أنتجت السفهاء والسماسرة وكرهت المثقفين ودعاة العلم والتقدم، وإذا كانت فى حالة تنمية أنتجت الشغيلة وكرهت العاطلين والمتلطعين على أى مذهب غير مذهب العمل والإنتاج.
تساءل ويلهلم ريخ عام 1933 عن إذا ما كان النظام الاجتماعى الاقتصادى الجديد سيعيد إنتاج نفسه فى البنية الشخصية للشعب؟ وإذا كان ذلك سيحدث فكيف يحدث؟ وهل سيرث الأبناء سماته؟ وهل سيكون حرا مستقل الشخصية وتحركه دوافعه الذاتية؟ وهل يمكن أن يستغنى بهذه السمات الجديدة عن أى حاجة لأى توجيه سلطوى من الدولة؟
أظنها أسئلة يجب أن يعيدها على نفسه أى مجتمع يمر بمرحلة انتقالية فى حياته، وأظننا – كأمة فى حلقة تغيير – يجب أن نتساءل عن سمات الإنسان المصرى الجديد الذى نريد أن نراه على هذه الأرض فى الزمن الذى نريد أن تسترد فيه هذه الأرض مجدها العريق.
وأحسب أن إجابة هذه الأسئلة تتلخص فى مذهب اجتماعى جديد يحمل عنوان «صناعة إنسان التنمية»، وهو مذهب يجب أن تظهر عقيدته على قطاعات التربية والتعليم والإعلام والتثقيف السياسي، وأن توزع مهامه على مؤسسات هذه القطاعات كل حسب اختصاصه وقدرته.
وإنسان التنمية ليس نمطا مجهولا يحتاج إلى إعادة اختراع، وإنما هو نمط معهود عرفته حضارات كثيرة فى سنوات صعودها، وهو الإنسان الصالح لأن يكون ترسا فى عملية التنمية التى يسعى إليها مجتمعه.
وإنسان التنمية هو الإنسان المؤهل فنيا، من حيث علمه أو فنه أو صنعته، ليكون مناسبا للتنمية الشاملة، والمؤهل قيميا بالمبادئ الأخلاقية والنفسية اللازمة لها.
فلا يكفى أن يكون صانعا ماهرا وفقط، وإنما يجب أن يكون مثابرا مجتهدا راغبا فى توسيع معارفه محترما لقيمة الوقت وقيمة العمل ولأخلاقيات الأمانة والدقة والانضباط.
وصناعة هذا الإنسان تبدأ عند مؤسسة الأسرة التى تربى الطفل على جوهر هذه القيم، ومنها إلى المؤسسة التعليمية التى تبث فيه التوجهات التفصيلية لكل مؤهلاته الفنية ومؤهلاته القيمية، ثم إلى مؤسسة العمل التى ستحفظ عليه هذه المؤهلات من حيث إنها ستعطى الأفضلية دائما للأفضل تأهيلا من الجانبين.
أما مؤسسة الإعلام فهى الجهة التى ستقوم بالتوجيه الفكرى والوجدانى العاجل لمعالم هذه الصناعة حتى تتمكن مؤسسة الأسرة ومؤسسة التعليم ومؤسسة العمل من بناء قدراتها على تشكيل إنسان التنمية، لأنها وإن كان يعيبها أن أثرها على عملية البناء الاجتماعى سطحي، إلا أنها تتميز بقدرتها على التأثير العاجل.
وللحديث بقية.

Link