أكثر ما لفت نظرى فى قضية الفساد الكبرى التى تزلزل أركان الحكومة المصرية هذه الأيام، هو طبيعة هذه الرشوة على وجه التحديد، فقلد جاء تفصيلها واشيا بالعديد من الإشارات التى تستحق التأمل والدراسة، كما تستحق الكثير من السخرية والتبكيت.

كان من بين الخدمات المقدمة للمرتشين فى هذه القضية 16 رحلة «حج فاخر» من النوع الذى تزيد تكلفة الواحد منه على 140 ألف جنيه، وهى إشارة على أن المرتشى يعامل دينه بقدر واضح من المغافلة والاستعباط، ولا يستحى من الله أن يزور بيته الحرام بمال حرام، ولا يستحى أن يقف أمامه هادما الشعيرة الوحيدة التى اشترط الله أن تكون من مال حلال مملوك للحاج.
وكان من بين الخدمات المقدمة للمرتشين مقابل تسهيل الاستيلاء على أراضى الدولة ملابس فاخرة، وهى إشارة على أن الشعور بالفقر والضآلة متأصل بين مسئولين فى هذا البلد على قدر من علو المنصب إلى درجة وزير، وهو ما يجعل الواحد منهم أحوج إلى من يكسوه ببذلة فاخرة ذات ماركة عالمية تشبع تطلعه لما يلبسه الأثرياء.
وكان من بين الخدمات المقدمة للمرتشين صيدلية لنجل الوزير أو ابنته، وهى إشارة ثانية على الشعور بعدم الأمان تجاه المستقبل الذى يحتاج إلى تجارة أو مشروع يغطى تكاليف الحياة للجيل القادم من الفاسدين الذين يبدأون حياتهم بغاية الأريحية بأموال نهبت من حقوق شعب لا يأمن المواطن العادى فيه على قوت يومه.
ورأس الإشارات فى هذه القضية أن أحدا من المتهمين فيها ليست لديه دوافع تقترب من الفقر والحاجة قد تبرر له طلبه لنفحة زائدة عما لديه بالفعل من مال أو سلطة، فالراشى حوت أزرق ليس فى الطبيعة حيتان كثيرة فى مثل حجمه، والمرتشى وزير -وربما وزراء – فى حكومة لها شعبية اكتسبتها بتسيير أعمال البلاد فى ظروف صعبة معقدة، والوسطاء أثرياء ونجوم فى أوساطهم ولديهم ما يكفيهم ويكفى سلالتهم لمئات من السنين.
ستكون فائدتنا كبيرة جدا إذا خضع المتهمون فى هذه القضية للفحص النفسى للبحث عن سبب وجيه لانحرافهم وجنوحهم إلى طلب الرشوة أو دفعها أو التوسط فيها.. يجب على العلوم النفسية أن تكشف لنا عن مبرر لهذا الجوع وهذا الشره وهذه الاستباحة.
وأعرف أن هناك فروعا من علم النفس تختص بدراسة المجرمين وتحليل أسباب ميلهم للجريمة، فهل فيها مبحث يغطى سيكولوجية هذا النوع من الإجرام غير المبرر؟ وهل فيها ما يفسر لمواطن شريف يرفض ألفى جنيه رشوة ليسهل مصلحة غير مشروعة لصاحب مصلحة فى هيئة حكومية كيف أن حيتانا وغيلانا وأصحاب سلطة لديهم ملايين أضعاف ما لديه لا يتعففون عن النهب؟
ولا أستبعد أن تفضى دراسة كهذه إلى اختبار نفسى يلتزم المسئولون فى الدولة من الآن ومستقبلا بالخضوع له قبل أن توكل إليهم أمانة المال العام ومصالح البلاد والعباد.
هذه القضية التى وصفت بأنها قضية فساد كبرى هى أكبر مما نراها بكثير، فهى تكشف إلى جانب ما سبق عن قدر هائل من الغباء الذى حل على المرتشى المصرى الذى عرف لقرون بأنه فطن وحذر ومتعقل، فما الذى حل بهذا المرتشى الموهوب كى يقدم على تلقى الرشوة أو تقديمها فى هذا العصر الذى تشى كل معالمه بأنه سيعاجل الفساد بالتصفية الفورية.
كيف لم يدرك هؤلاء أن زمن اقتسام المكاسب غير المشروعة قد ولي، وأن النظام السياسى الحالى سيسعده، بل وسيخدم مصالحه السياسية، أن ينكل بالفاسدين مقابل أن يكسب المزيد من التأييد على الأرض؟
دع عنك النية الطيبة لهذا النظام فى الإصلاح ومحاربة الفساد حقا، وفكر بعقلية الفاسد نفسه، وتصور مقدار ما حط عليه من البلاهة كى يقدم على جريمة بهذا الحجم فى هذا التوقيت الذى يحتاج فيه نظام الحكم لكل رأس فاسد مقطوع كى يقدمه قربانا لشعبيته التى تحتاج كل يوم للمزيد من التوطيد. 

Link