هذا المقال بداية لسلسلة من المقالات أنشرها تباعا على صفحات مجلة روزاليوسف الغراء عن التاريخ الأسود لمؤامرات الولايات المتحدة فى أنحاء العالم، وهى سلسلة استعنت فيها بمراجع مطبوعة وأخرى مصورة لشهادات مسئولين أمريكيين عن فصول ممارسة أمريكا لدورها كقوى عظمى فى قطبية ثنائية فى الحقبة التى تبدأ بنهاية الحرب العالمية الثانية وتنتهى بنهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى وتفككه، ثم كقوة منفردة بعد هذا الانهيار.

ومن التكرار الذى لا طائل من ورائه إعادة الكلام عن جدوى دراسة التاريخ، فمن المعروف بالضرورة أن قراءة التاريخ تساوى قراءة المستقبل، ولكن بعمق أكثر، وبدراية أكثر كشفا للتفاصيل والدوافع، ومن لا يدرك هذه الجدوى الآن لن يعيش ليرى المستقبل أصلا.
ويطيب لى أن أقطع الطريق على أنصار نفى نظرية المؤامرة مطلقا ونهائيا، واستبعادها من المعادلة كأنها لا وجود لها بأن أقول إن الفصول من التاريخ التى ألقى الضوء عليها فى المقالات التالية تشير إلى الحاضر والمستقبل أكثر مما تشير إلى التاريخ، تماما كما يشير المنطق إلى إن حركة التاريخ نفسها تسير فى خطوط مستقيمة فى الأغلب، وإن مد سياق معالجة واشنطن لملفات مصالحها الخارجية ليس إلا سلسلة قد قدت حلقاتها من خام التآمر، وليس من المتوقع أن تكون حلقاتها التالية مصنوعة من ريش أجنحة الملائكة».
انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة الرايخ الثالث، واحتل الحلفاء ما كانت فى الماضى القريب أراضى ألمانيا النازية، وبينما كان الجيش الأحمر يطبق على ألمانيا من ناحية الشرق، كانت قوات بريطانيا وفرنسا وأمريكا تسرع الخطى من ناحية الغرب لتدرك جيش ستالين قبل أن ينفرد ببرلين.
ورغم أن الكبار الثلاثة (جوزيف ستالين، رئيس الاتحاد السوفيتي، وونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، وفرانكلين روزفلت، رئيس الولايات المتحدة) كانوا قد اتفقوا مسبقا على تقسيم أراضى ألمانيا النازية، فقد كان السباق من أجل وضع قدم فى برلين عاصمة هتلر هدفا لمن يريد أن يقول للعالم إنه حقق الانتصار فى الحرب العالمية الثانية.
كان ستالين قد انتزع فى اجتماع الزعماء الثلاثة اتفاقا على احتلال بلاده لشريحة من شرق بولندا، وعلى انتزاع بولندا لشريحة مقابلة من أراضى ألمانيا لتعويضها عن الأرض التى ضمتها موسكو.
وفتح الجيش السوفيتى برلين ورفع العلم الأحمر فوق مقر قيادة الرايخ، بينما احتلت قوات بريطانية وفرنسية وأمريكية القسم الجنوبى الغربى من العاصمة، وسرعان ما انفرط عقد الحلفاء ليصبحوا غرماء، وتحولت برلين الغربية إلى جزيرة تمثل قوى الرأسمالية وسط ألمانيا الشرقية التى تسعى موسكو إلى صبغها باللون الأحمر.
ولولا أن الروس بنوا جدار برلين الشهير لوقعت مواجهة بين الشرق والغرب كانت بالتأكيد ستقود إلى حرب عالمية ثالثة، وصحيح أن بناء الجدار هدأ الأوضاع على هذا الخط فى قلب أوروبا، لكنه رسم علامة ملموسة لبداية صراع استمرت فصوله لعقود، وستستمر آثاره وتبعاته لعقود أطول.
سقطت الصين التى كانت حليف واشنطن الأكبر فى آسيا فى قبضة الشيوعية بقيادة صينية خالصة، وبدعم طفيف لا يعتمد عليه من الاتحاد السوفيتي، بينما سيطر الاتحاد السوفيتى عبر الأحزاب الشيوعية المحلية على المجر وبولندا وألمانيا الشرقية، وكاد الشيوعيون ينتصرون فى انتخابات عامة على الديمقراطيين المسيحيين، لولا المؤامرة الأمريكية.
كما كاد الشيوعيون يصلون للحكم فى فيتنام بالطرق الديمقراطية لولا رفض واشنطن إجراء الانتخابات من الأصل، وإقدامها على احتلال فيتنام.
ولولا المؤامرات الأمريكية، ولولا الأنشطة السرية لأجهزتها الاستخباراتية فى آسيا – شرقا وجنوبا وغربا – وفى أفريقيا وفى أمريكا اللاتينية، بل وفى قلب أوروبا نفسها، لما وصل العالم إلى ما نعرفه اليوم.
بل الحقيقة أن أمريكا أدارت دورها كقوة عظمى بالمؤامرات التى حققت لها مصالحها بالوساطة والوكالة، أكثر مما أدارته بالمواجهات المباشرة التى كان أغلبها خاسرا.
وفى المقالات التالية إن شاء الله تفصيل أحسبه يكون كافيا لهذا التاريخ الذى اعترفت به الولايات المتحدة بينما لايزال بيننا من ينكره.

Link